منحتنا الحركة الاحتجاجية المتواصلة في بنغلادش درساً ملهما آخر في الدفاع عن العدالة الاجتماعية، وإلغاء محاصصة الوظائف العامة. فقد انطلقت موجاتها الواسعة منذ أول تموز وما زالت مستمرة، بل و تحولت إلى انتفاضة شعبية عارمة اجتاحت البلاد، وراحت تهز أركان النظام، الذي عجز حتى الآن عن القضاء عليها.
وجاءت هذه الاحتجاجات رفضًا لقرار المحكمة العليا، القاضي بإعادة العمل بنظام تحاصص الوظائف المثير للجدل، والذي يُخصص 30 في المائىة من الوظائف الحكومية لأبناء وأحفاد المقاتلين في حرب استقلال بنغلادش عن سيطرة باكستان عام 197. وذلك وفق القانون الذي شرع اثناء حكم مجيب الرحمن، والد الشيخة حسنة رئيسة الوزراء الحالية.
والملاحظ أن نسبة كبيرة من هذه الوظائف تذهب كامتيازات للموالين لحزب السلطة، مما يُشعر غالبية شباب بنغلادش بتعرضهم لاجحاف كبير. ويعتبر هذا النظام أحد مؤشرات غياب العدالة الاجتماعية، حيث يطالب الشباب بأن تكون الوظائف العامة متاحة للمواطنين المستحقين، بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية واتجاهاتهم السياسية. لهذا نظموا في عام 2018 احتجاجات عارمة، هزت النظام السياسي في حينه، واضطرته إلى إلغاء تطبيق القانون، الذي كان قد استنفد مبرراته منذ عقود.
الا ان عدم تطبيق القانون، كما تبين لاحقا، لا يعني إلغاءه. وبالفعل عادت السلطة الى تطبيقه إثر دعوى قضائية، تقدمت بها مجموعة من المستفيدين من المحاصصة ومعهم محامو السلطة الغاشمة. فأعيد العمل به، وأشعل ذلك غضبًا واسع النطاق بين طلاب جامعة دكا، وتبعهم طلاب الجامعات والمعاهد في عموم البلاد. ونظم الطلاب حراكهم تحت شعار «طلاب ضد التمييز»، وطالبوا بإلغاء الحصة المحددة لأبناء المقاتلين السابقين، مع الحفاظ على الحصص المخصصة للأقليات العرقية وذوي الإعاقة، كما طالبوا بنظام توظيف قائم على الشهادة والكفاءة والعدالة والإنصاف.
وقد قُمعت تلك الاحتجاجات باستخدام الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، وأدى تصاعد عنف السلطة إلى سقوط قتلى ومصابين كثيرين. فأجج هذا غضب المحتجين الذين ردوا بقطع الطرق، خاصة إثر تصريحات رئيسة الوزراء التي وصفت فيها المحتجين بـ»الخونة». ودخلت الأمم المتحدة على الخط معربة عن قلقها، ودعت الحكومة البنغلاديشية لضمان سلامة المتظاهرين وحمايتهم من العنف.
ان هذه الاحتجاجات تمثل تحديًا كبيرًا لحكومة الشيخة حسينة، التي تحكم منذ 2009. فهي تواجه انتقادات متزايدة بسبب سياساتها وتعاملها مع المعارضة. ويمكن القول أن من أبرز التأثيرات المتوقعة لنجاح الحركة الاحتجاجية في فرض إلغاء نظام المحاصصة، تنامي المعارضة للحكومة وإحداث تغييرات في سياساتها وإضعاف القوى السياسية التقليدية. كذلك ضرب امتيازات الفئات المستفيدة من نظام المحاصصة، وتعزيز ثقة الشباب بكفاحهم في سبيل العدالة والمساواة، وزيادة وعيهم بحقوقهم، وتعزيز روح التضامن الاجتماعي.
ان نجاح الاحتجاجات في إلغاء نظام الحصص الوظيفية يمكن ان يؤدي للانتقال إلى نظام قائم على المواطنة المتساوية والكفاءة والخبرة، وقد يتطلب تعديلات قانونية وإدارية تقود إلى استقرار البلد وتنميته، وتترك تأثيرات إيجابية كبيرة على الصعيدين السياسي والاقتصادي، بجانب تعزيز العدالة الاجتماعية وزيادة فرص العمل.
غير ان الحكومة ستبقى تواجه، رغم ذلك، تحديات تتعلق بالمقاومة للتغيير، وبالفترة الانتقالية الضرورية لتحقيق الإصلاحات المذكورة.
طريق الشعب