يحتل قانون الاحوال الشخصية في حياة الفرد مركزا حساساً لارتباطه ارتباطاً وثيقاً بتنظيم حياته الاسرية وتعلقه بمعتقدات الفرد ومركزه الاجتماعي. فمن الطبيعي جداً ان تتجاذبه الاراء خاصة وانه اضاف مسائل ذات صبغة فقهية اسلامية بابعاد مذهبية, واثراءاً لهذا الجدل العام المتعلق بهذا المقترح يمكن سبر اغوار التعديل لالقاء الضوء وبشكل موضوعي وفي حدود النص القانوني المقترح بمنهجية التفكير النقدي القانوني الملتزمة وبالمحاور الاتية: -
اولاً: مدى تحقق متطلبات المادة (41) كاساس دستوري لتعديل قانون الاحوال الشخصية
1.تجرئة الاساس الدستوري
جاء هذا التعديل مستنداً الى نص دستوري واضح الدلالة فالمادة (41) من الدستور وجهت المجتمع والسلطات على ان العراقيين احرار في الالتزام باحوالهم الشخصية حسب 1- الديانة 2- المذهب 3- المعتقد 4- الاختيار, وبذلك فان مبدأ "حرية الاختيار في الاحوال الشخصية" يجب ان يضم اربعة عناصر كما نصت المادة اعلاه وهي (الدين-المذهب-المعتقد-الاختيار), فعلى الرغم من ان مقترح قانون تعديل قانون الاحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 جاء منسجماً ومستنداً الى نص دستوري لا غبار عليه ولا يمكن الاعتراض عليه لانها الوثيقة التي تفصل في اختلاف العراقيين بشأن اي قانون, ولكن بالوقت ذاته فان التعديل ضم عنصر واحد وهو (المذهب) فالعراقي حر باختيار المذهب لتنظيم احواله الشخصية, ولم يضم بقية العناصر الاخرى (1- الديانات 2- المعتقدات 3- الاختيار) فكان على المشرع العراقي ان يحقق كل متطلبات النص الدستوري لا ان يختار عنصراً واحداً ويترك البقية فيكون قد جزء تطبيق النص الدستوري واخل به.
2.لا حرية للمرأة في اختيار احوالها الشخصية بحالة الزواج المختلط
الزواج المختلط هو ذلك الزواج الذي يكون فيه الزوجين من مذهبين مختلفين او من مقلدي لمرجعين مختلفين, فاذا كان العراقيون (ذكر – انثى) احرار في اختيار احوالهم الشخصية حسب مذهبهم بموجب المادة (41) من الدستور واذا كان العراقيون متساوون امام القانون دون تمييز بسبب الجنس (ذكر وانثى) او بسبب المذهب (شيعي – سني) حسب المادة (14) منه, فلماذا يفرض على الزوجة احكام مذهب او فتوى مرجع هي لا تعتقد به؟ ولماذا يمنح الرجل حق اختيار المذهب لتنظيم احواله الشخصية وبالمقابل يُسلب من المرأة؟ فما ذنب المرأة الشيعية يفرض عليها احكام المذهب السني لانه مذهب الزوج؟ وما ذنب المرأة السنية يفرض عليها احكام المذهب الشيعي لانه مذهب الزوج؟ وبذلك يمكننا القول ان هذا المقترح غير صالح لتحقيق متطلبات المادة (41) من الدستور اذ شوه المادة الدستورية فاصبحت (للعراقي فقط حق اختيار المذهب) لان هذا المقترح حصر حرية اختيار المذهب بالرجل في حالة الزواج المختلط, فكان الاجدر ان يضمن المقترح الحرية للطرفين دون تمييز. فالمساحات البينية بين المذاهب في الاحوال الشخصية خالي من اي معالجة, والاجدر ان يكون لها نظام قانوني خاص يجمع بين احكام المذهبين للزواج المختلط وهذا يحتاج الى جهد فقهي كبير للتقريب بين المذاهب بشأن الاحوال الشخصية ليضمن الفقه الاسلامي وحدة الاسرة في المجتمع العراقي.
3.حاكمية الرأي الفقهي المشهور وتبعاته القانونية على الحرية الدينية في تقليد المراجع
"الرأي الفقهي المشهور" هو المعتمد في كتابة "مدونة الاحكام الشرعية للاحوال الشخصية" وفرض " الرأي الفقهي المشهور" ليكون هو الناظم التشريعي للاحوال الشخصية يتعارض مع المبدأ الدستوري القاضي بحرية العراقيين في تنظيم احواله الشخصية, فعندما لا تتوافق فتاوى المرجع الذي تقلده اكثر الشيعة في النجف الاشرف مع الرأي المشهور فان مقترح تعديل القانون يرجح الرأي المشهور ويهمل فتوى المرجع الذي تقلده اكثر الشيعة في النجف الاشرف وبالتالي اخضعنا اغلبية الشيعة لرأي فقهي خلاف معتقدهم الديني وتقليدهم الشرعي, فمقلدي السيد السيستاني (دام ظله) لا يقبلون من ناحية الشرعية الا فتاوى مرجعهم وهم في ذلك لهم الحق؟ فماذا ستكون النتائج بعد حين من تنفيذ هذا التعديل؟
اضافة الى ذلك وكما هو معلوم ان في المذهب الشيعي وفي النجف الاشرف مرجعيات لا مرجعية واحدة ولهم مقلدين اخرين وباعداد كبيرة يرجعون اليهم في فتاواهم فعندما يفرض "الرأي المشهور" او رأي المرجع الذي تتبعه اكثرية الشيعة في النجف حال تعذر تحديد "الرأي المشهور" فاين سيكون المبدأ الدستوري القاضي بحرية العراقي بتنظيم احواله الشخصية حسب معتقده الشخصي وتقليده الذي اختاره؟ فالتعديل يحكمه برأي لا يمثل رأي مرجعه الذي يقلده, وهذا خلاف متبنيات حوزة النجف الاشرف باتباع الحرية الدينية في التقليد دون فرض.
وفي كل ذلك انتهاك للحرية الدينية التي كفلها الدستور في الفقرة (ثانياً) من المادة (2) من الدستور ويدخل الاسرة العراقية في صراع داخلي لعدم توافقها الديني داخلياً. فان هذه التطبيقات العلمية لنصوص مقترح تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي لا يحقق متطلبات المادة (41) من الدستور ويشوه حكمها ويدخل البلد في ازمات دينية.
ثانياً: كتابة القوانين اختصاص حصري لمجلس النواب
مقترح قانون تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي خول "المجلس العلمي" في الوقفين الشيعي والسني بكتابة مدونة الاحكام الشرعية لمسائل الاحوال الشخصية وهذا خلاف الاختصاصات القانونية التي بينت ان كتابة نصوص مقترحات القوانين هو اختصاص حصري وسلطة شخصية لمجلس النواب (اللجنة البرلمانية) غير قابلة للتنازل او توكيل الغير بها بموجب الدستور والقانون,ويمكن لهذه اللجنة "الاستعانة" بالخبراء في الشؤون الشرعية ممن يوثق بقدراتهم الفقهية لكلا المذهبين من اساتذة الحوزات العلمية والجامعات بما فيها المجلس العلمي في الوقفين الشيعي والسني, فكان الاجدر على اللجنة ان تقوم هي بكتابة المدونة بكل تفاصيليها بعد الاستعانة والاسترشاد بالقطاعات الدينية المختصة, ثم عرضها للقراءة.
فان مقترح تعديل القانون ابتدع عمل برلماني خاطيء وغير منصوص عليه هو تكليف دوائر رسمية بكتابة القوانين وما على البرلمان سوى انتظار مسودة القانون التي كتبتها تلك الدائرة الحكومية لغرض التصويت عليه, فاذا احتاج البرلمان تشريع قانون للعقارات فانه سيكلف دائرة التسجيل العقاري بكتابة مسودة ذلك القانون, واذا احتاج البرلمان تشريع قانون للضريبة فيكلف مديرية الضريبة لكتابة قانون الضريبة المطلوب, ونسى ان هذه الدوائر هي دوائر تابعة للسلطة التنفيذية ولا تملك السياسية التشريعية العامة التي يملكها البرلمان فضلاً عن ان هذا الاسلوب هو اسلوب غير دستوري.
ثالثاً: تسجيل عقد الزواج في المحاكم
ادخل هذا المقترح المحاكم وطرفي عقد الزواج وخاصة طرفه الضعيف (المرأة) في دهليز دعاوى اثبات الزوجية واثبات النسب التي تأخذ الجهد والوقت والتي قد تتسبب بضياح الحقوق لعدم القدرة على الاثبات. فقد اباح مقترح القانون عدم تسجيل عقد الزواج وتركه لحرية اطرافه بالغاءه العقوبة الجنائية (الحبس) على من تزوج خارج المحكمة. وما اسهل الافلات من عقد غير مسجل وما ايسر انكاره, فمن تزوجت خارج المحكمة لاحماية لها وحقوقها معرضة للضياع بسهولة ويتعرض المجتمع من جراء ذلك الى الاضطراب والفوضى.خاصة اذا كان عقد الزواج من دون شهود فيكون هذا العقد من دون دليل اثبات.يعد اشتراط تسجيل العقود اعلاماً عن مدى خطورة العقد الذي يقدم عليه اطرافه فهل يوجد في المجتمع عقد اخطر من عقد الزواج؟, ثم كمجتمع اسلامي الا تستحق الانساب والاعراض والحقوق الشرعية حفظها باشتراط التسجيل من خلال ترتيب قوة الزامية على تسجيل عقد الزواج بالنص على العقوبة؟! فليس من المنطق تقرير تسجيل المركبات وتسجيل العقارات وعقد الزواج لايشترط فيه التسجيل كشرط لصحته. فعقد الزواج ليس اقل شأناً عن هذه العقود بل هو اعلاها واخطرها.
رابعاً: الدراسات الاجتماعية السابقة للمقترحات القوانين
قانون الاحوال الشخصية هو النظام القانوني المختص برسم الهندسة الاجتماعية لانه يحكم الاسرة التي هي اساس المجتمع التي بدورها تحكم البناء الاجتماعي والسياسي للدولة والمجتمع. واستحضار البعد الاجتماعي في انتاج هذا القانون هو الضمان الوحيد للابتعاد عن الازمات, بخلق مرحلة ما قبل التشريع هذه المرحلة هدفها الوقوف على الدراسات الاجتماعية والنفسية لكل نص من نصوصه لبناء فهم اجتماعي اعمق و حل حقيقي اشمل لكل مشاكل الاسرة. فلا تقرر الاحكام القانونية من دون بيان الغاية الاجتماعية من وجودها, والجرأة في طرحها فقد يكون هناك طريق شرعي اخر يحل المشكل الاسرة بكفاءة اكبر, اما السكوت عن بيان الاثار الاجتماعية لبعض الاحكام فلا يجوز, فمثلاً عندما نقرر تغيير حكم الحضانة الحالي ويكون الاب هو الاولى بها من الام فان المشكلة الاجتماعية لم تحل وستستمر اذ سوف تنتقل هذه المشلكة من الاب الى الام, فحل مسألة الحضانة يكون بتنظيمها بشكل تفصيلي باقامة التوازن بين الابوين بحق حضانة ورعاية ابنيهما دون الاكتفاء بنقل حق الحضانة للاب فقط, ثم اذا ما سلبنا الام حق الحضانة اذا ما تزوجت فان هذا الحكم سيمنع الكثير من الامهات المطلقات والارامل من الزواج خوفاً من انتهاء حضانتها لاولادها مما يعني زيادة اعداد الامهات غير المتزوجات, ثم ان اباحة تعدد الزوجات دون قيود عقلية (المصلحة) فان ذلك يخلق اسر عديدة لا يقدر كفالتها لانها ستكون خارج مقدرته بكل ابعادها المالية والجسدية والنفسية وتخلف الاب في اداء واجباته الزوجية اثر كبير في انحراف الاسرة. ثم ان طلاق المراة وتركها بشكل مفاجيء دون سكن يعرضها للضياع فيجب توفير سكن لها يتكفله زوجها السابق او الدولة لفترة معينة تستطيع من خلاله ترتيب وضعها الجديد. ثم هل سن البلوغ وفق تطورات الحياة وتغيير نمطها عن زمن النص يعتمد فقط على بداية اكتمال القدرة الجنسية ام يحتاج الى القدرة العقلية التي يمكن الفرد من تشخيص مصلحته والدفاع عنها فلا يمكن للصغيرة او الصغير ان يشخص مصلحته في عقد الزواج وهذا هو الثابت عند جميع الفقهاء اعطوا للولي حق التزويج من عدمه كما ان الولي لايحقق المصلحة للصغيرة او الصغير عندما يزوجهما فقرر الفقهاء منحهما حق فسخ العقد بعد البلوغ, وهذا اقرار بان الحماية بالولي غير كافية لذا منحوا حق فسخ عقد الزواج, فالنص القانوني هو اكثر حماية من الولي. و مثل هذه الحالات كثير يجب ان تطرح على الفقهاء المختصين لضمان ان يكون تعديل القانون كائن حي يحل معظم المشاكل الاجتماعية.