اعتمد الفقهاء المسلمون الاحكام الظنية التي تتسع فيها دائرة الاجتهاد اذ استنبطوا منه الحكم الشرعي من الدليل التفصيلي فيما لا نص فيه للوصول الى قواعد عملية تتعلق بادارة الشان العام بما في ذلك الاحكام المتعلقة بالزواج والاثار المترتبة عليه . من تلك الاحكام القول بان الزواج ( رابطة دينية ) وهذا يعني ان ابرامه وتوثيقه لا يتم الا من خلال وساطة رجل الدين وبخلافه يعد العقد باطلا . انتشرت ثقافة الكهنوت الوسيط في المذاهب الاسلامية من دون استثناء وارتفعوا باحكامها الى مستوى التقديس فاستقرت في اذهان الاتباع والمقلدين كثقافة عامة ، في حين ان الثابت فقها ان الاحكام الظنية تتغير وتتعدد بتغير الحياة والزمان والمكان وهو اجتهاد وان كان جائزا ومندوبا من اهل الفقه فهو في المحصلة منتج بشري وهي على خلاف الاحكام القطعية التي لا يجوز الاجتهاد بها . واذ كان البعض يتلمس العذر للحكم الظني باعتباره مطلوبا لتنظيم شؤون الناس في مرحلة ما قبل الدولة الحديثة الا النصوص المؤسسة للشريعة الاسلامية لا تقر تلك الوساطة لان الزواج من العقود الرضائية ( ايجاب وقبول) ولا محل شرعا وقانونا للوسيط في العقود الرضائية.
حركة الزمن ووقائعه المتلاحقة واحكام التطور والجهد الانساني التنويري والحراك الدؤوب للانسان افضى الى وجود نظم جديدة تحكم سلوك الافراد في المجتمع هذا الحراك والتغيير بمجمله افضى الى تأسيس جديد (الدولة الحديثة ) التي جاءت باحكام ونظم وتشريعات قيدت الكثير من المنتج الفقهي الديني المتعلق بادارة الشأن العام لا بل ان الدولة وجدت ان الكثير من تلك الاحكام الفقهية لا تنسجم والتشكيل الجديد لأنها موضوعة لزمان غير زمانه وكان للاسرة حصتها من هذا التغيير في الرؤى والوظيفة اذ دخل علم الاجتماع على هذا الخط واوجد تعاريف جديدة لها بأعتبارها الجماعة الاولية التأسيسة في التنظيم الاجتماعي التي تحتضن الفرد في مراحل حياته المختلفة وهي الاطار الاجتماعي العام التي تنشأ عن طريقه محددات السلوك عند الافراد ، ولم يقتصر نشاط الاسرة على علم الاجتماع بل دخلت السياسة والاقتصاد والقانون اذ خلصوا الى ان الاسرة تحكمها الروابط القانونية وليس الروابط الدينية وعلى هذا المنهج فقد افردت الدول في دساتيرها نصوصا خاصة بها باعتبارها التشكيل الاولي الذي يتأسس عليه المجتمع وامام فيض النصوص الدستورية الناظمة للاسرة ووظيفتها في دساتير الدول الحديثة انحسر الموروث الفقهي الموضوع للمرحلة المنقرضة .
لم يخرج المشرع الدستوري العراقي عما استقرت عليه دساتير الدنيا في موضوع النصوص التشريعية المتعلقة بالاسرة فاعتمد النص التشريعي الحديث حصرا المستمد احكامه من العهود والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الانسان وسطرها ضمن احكام المادة (29) من الدستور بفقراتها الاربع وبمراجعة نصوصها يلاحظ انها انطوت على على المباديء التالية :
اولا – للاسرة وظيفة اجتماعية : النص الدستوري اعتبر الاسرة اللبنة الاولى والوحدة الاجتماعية الاساسية التي يرتكز عليها المجتمع ورسم لها وظيفتها الاجتماعية المتمثلة في المساهمة في البناء المؤسسي للدولة اي انها بموجب النص المذكور طرف من اطراف الدولة والمجتمع ولكي تؤدي الدور المرسوم لها بموجب الدستور فقد خصتها النصوص اللاحقة بالحماية المطلوبة التي تمكنها من تادية دورها فضلا عن كونها المعين الذي لا ينضب الذي يزود المجتمع والدولة بما يحتاجه من الكوادر الرجالية والنسائية المطلوبة لعملية البناء والتنمية والتطور باعتبارهم ثروة الوطن البشرية . هذه النصوص القانونية الناظمة للاسرة تصرح وبشكل قاطع انها مؤسسة قانونية من حيث التاسيس والاداء والاثار ويحمها النص التشريعي للدولة حصرا .
ثانيا – الدولة طرف ثالث في تشكيل الاسرة – الدولة دخلت الى الاسرة باعتبارها احد افرادها حامية وراعية لشؤون الاسرة اسوة بالاب والام اذ يمتد نشاطها في الاسرة الى موضوع الامومة والطفولة وتقديم الخدمات بما يضمن لها الاستقراروالعيش الكريم ، فهي من تخصص المدارس وتجهزها لوجستيا ومهنيا ، وهي من تعد المعلمين للمهام الموكولة اليهم ، وتعينهم وتدفع رواتبهم ، وهي من تضع المبالغ في الموازنات العامة لتغطية الخطط والبرامج التعليمية والتربوية وهي التي تكفلت بما يلزم من اجل حماية الامومة والطفولة اي بالتصدي بكل السبل لكل من يحاول ان يتجاوز على الاسرة ، فعلى سبيل المثال ان حماية الامومة في النص الدستوري يعطل الحكم الفقهي القاضي بنزع الحضانة من الام عند اكمال السابعة من العمر .
ثالثا – الاسرة واحكامها الدستورية لها مرجعية قانونية وليست دينية - اذ استمدت المادة الدستورية احكامها من المواثيق والعهود الدولية التي صادق عليها العراق واصبحت جزء من نسيجه التشريعي الوطني ، منها على سبيل المثال المادة 23 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي نصت على ان : ( الاسرة الوحدة الجماعية الطبيعية الاساسية في المجتمع ولها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة ، والمادة (5) من اتفاقية القضاء على كافة اشكال التمييز ضد المراة (سيداو) التي نصت على : ( كفالة تضمين التربية العائلية فهما سليما للامومة بوصفها وظيفة اجتماعية والاعتراف بكون تنشئة الاطفال وتربيتهم مسؤولية مشتركة بين الابوين على ان يكون مفهوما ان مصلحة الاطفال هي الاعتبار الاساسي في جميع الحالات فضلا عن احكام المادة (2) الواردة في اتفاقية حقوق الطفل التي توصي باتخاذ التدابير المناسبة لحماية الطفل .
خلو هذه النصوص من المضامين الفقهية الدينية قد تدفع البعض للنيل منها او التعرض لها ، هنا نقول ان الدستوربكامله بما في ذلك المادة 29 منه خضع للاستفتاء العام وبمباركة المرجعية الدينية ، وبالمحصلة : ان الدولة وحدها من تكتب للاسرة تشريعاتها .