تطرح قضية تفعيل المجتمع المدني في العراق اليوم نفسها بصورة حادة، لا سيما على خلفية تقصير المؤسسات المنتخبة وأجهزة الدولة في أداء دورها المطلوب حتى في إطار القوانين المتعارف عليها في البلاد، وفي حالات كثيرة تجاهلها الرأي العالم ومطالب المجتمع المشروعة وخلقها التربة المناسبة لانتشار الفساد. أن تنظيم المجتمع لنفسه في جمعيات مدنية في الحالة العراقية يمكن كذلك أن تؤدى دورا فاعلا في الرقابة والتوجيه لمؤسسات الدولة، وتشخيص تقاعسها وخروجها عن القانون وتحولها الى مراكز منفعية شخصية أو لأغراض حزبية ضيقة، كما سائد اليوم.
وبدون ردود فعل جيدة وواضحة من الناخبين، يمكن أن يصبح المسؤولون المنتخبون بيروقراطيين كسالى ومتعجرفين ومتقاعسين. وحتى في البلدان ذات التقاليد الديمقراطية العميقة، كثيراً ما ينأى "ممثلو الشعب" بأنفسهم عن الأشخاص الذين يمثلون مصالحهم. يجب أن يكون الناخبون قادرين على المطالبة بإجابات على الأسئلة التي يطرحونها وتوفير المعلومات للمسؤولين المنتخبين التي ستساعدهم على اتخاذ قرارات السياسة العامة. معظم المسؤولين المنتخبين ليس لديهم جهاز كبير لمساعدتهم في عملهم.
إن أصعب مهمة تواجه الجمعيات الاجتماعية هي تقديم الحقائق والأسئلة بطريقة تجعل المجتمع مطلع على المعلومات، ويعرف من يجب الاتصال به، ويكون على استعداد للمشاركة في عملية توفير المعلومات هذه. وهناك طرق المختلفة لتحقيق هذا الهدف.
لقد غدت مفاهيم "المجتمع المدني" و"سيادة القانون". و"الثقافة السياسية" - وغيرها، القديمة جدا والجديدة بالنسبة للساحة العراقية، أكثر شيوعا وقبولا في مفردات معرفتنا الاجتماعية وتضعها الأحزاب الوطنية والحركات الاجتماعية في مقدمة برامجها. وتتمحور تلك المفاهيم أساسا على دور المجتمع المدني في الدولة الديمقراطية، و كيف وبأي طريقة يمكن للمجتمع المدني أن يساعد السلطات في أداء مهامها بصورة صحيحة. وتهدف المهام الأخرى للمجتمع المدني أيضا إلى ضمان مساءلة الهيئات الحكومية، وإلى الشفافية في أنشطة مؤسسات الدولة. ويؤكد هذا الفصل على أهمية المعلومات العامة في مجتمع ديمقراطي ويكشف عن الدور الذي لا غنى عنه للجمعيات الاجتماعية في توفير التواصل بين المواطنين والمسؤولين المنتخبين.
والمجتمع المدني، حسب تعبير عالم السياسة الروسي كمال الدين حجييف، في كتابه "علم السياسة": هو "نظام من الروابط الاجتماعية التي يتم من خلالها تشكيل وتحقيق المصالح الاقتصادية والمهنية والثقافية والدينية وغيرها من المصالح للناس. ويتم التعبير عن هذه الاهتمامات وتنفيذها من خلال مؤسسات المجتمع المدني مثل الأسرة والمؤسسات الدينية ونظام التعليم والجمعيات، والمنظمات العلمية، والمهنية، وغيره".
وفي التحول الديمقراطي للدولة. ووفقاً للاري دايموند في كتابه "روح الديمقراطية. الكفاح من اجل مجتمعات حرة "، فإن "المجتمع المدني يؤدي العديد من الوظائف الحاسمة الأخرى للتنمية الديمقراطية وتوحيد القوى الديمقراطية". وتشمل هذه الميزات: الحد من سلطة المسؤولين، بما في ذلك مراقبة ومكافحة الجرائم التي يرتكبها من هم في السلطة؛ مراقبة الامتثال لحقوق الإنسان وتعزيز القانون والنظام؛ - مراقبة الانتخابات، وضمان مستوى أعلى من الديمقراطية، وزيادة الثقة في العملية الديمقراطية؛ - التثقيف القانوني للمواطنين وتوضيح حقوقهم ومسؤولياتهم؛ وخلق جو عام من السلام المدني والمشاركة المدنية في حياة البلاد، وإشراك مختلف الجماعات والحركات الاجتماعية في العملية السياسية، وزيادة نشاطها في حماية المصالح العامة، وتطوير طرق بديلة الى جانب تمويل الميزانية، لرفع مستوى المعيشة ونوعية الحياة، وضمان الشفافية والتعددية عن طريق تنوير المجتمع، والتنسيق في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والسياسية.
ويوضح دايموند أيضا أنه "عندما تحقق المنظمات المدنية العامة الاحترام والثقة بنفسها من مختلف القوى السياسية، فإنها تكون قادرة على تثبيت الوضع، وأحيانا إنقاذ الديمقراطية في حال نشوب الأزمات". ويستشهد على سبيل المثال بالوضع في جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث لعبت المنظمة غير الحكومية رابطة أفريقيا الوسطى لحقوق الإنسان دوراً حاسماً في الوساطة في انتفاضتين للجيش في عام 1996.
ويرى دايموند وهو كذلك صاحب كتاب "النصر المهدور في العراق…": "إن السبب الرئيسي وراء إحباط التجارب الديمقراطية وغياب المجتمع المدني الفاعل والمؤثر في العراق…هو استشراء الفساد في كافة مرافق الدولة." ويضيف " من الصعب جدا بناء دولة متجاوبة وتعددية عندما يتم اختراق تلك الدولة بشكل كامل وشامل من قبل قوى فاسدة لديها ثرواتها ومصالحها الخاصة، وتعمل على الإثراء على أساس مفترس ونطاق واسع وتجعله الهدف الرئيس لها، بدلا من تطوير المجتمع. و…للعراق موارد ضخمة سهلت ومكنت من حدوث هذا الفساد. ذلك هو النفط".
وعلى وفق مختلف الدراسات، تواجه البلدان المختلفة تحديات متنوعة للغاية عند التحول إلى مجتمع ديمقراطي. وفي كل الحالات تقريباً، تستطيع منظمات المجتمع المدني أن تقدم مساهمة كبيرة في تعزيز حيوية الديمقراطية، ورفع الوعي العام، بل وحتى منع الانتهاكات والتجاوزات على القانون من قِبَل من هم في السلطة (جزئياً، من خلال فضح وتوثيق مثل هذه الانتهاكات). وفي ظل الضغط المستمر والتهديدات والاعتقالات وخطر ممارسة التعذيب والاغتيالات، تواصل جماعات حقوق الإنسان وغيرها من منظمات المجتمع المدني النضال بشجاعة من أجل الديمقراطية.
ويمكن للمجتمع المدني مساعدة السلطات في تأدية مهامها في إطار القانون والمصلحة الوطنية حصرا. ويمكن للجمعيات المدنية المشاركة في عملية التحول الديمقراطي في البلد، وأن تؤدي مع كيانات أخرى دورا هاما في التأثير على المؤسسات السياسية وأجهزة الدولة على المستوى المحلي، على مستوى المحافظات والمدن والقصبات الأخرى المكونة للدولة. وكذلك على المستوى الاتحادي.
وتوحد مكونات المجتمع المدني في صفوفها أغلبية سكان البلاد ذوي التوجهات الديمقراطية. هؤلاء هم "أنا وأنت"، الأشخاص الذين لا يشغلون مناصب مُنتخبة، وهم: الطلاب وأعضاء الأندية والجمعيات والمنظمات الدينية والجمعيات الرياضية. وإذا كان المجتمع المدني هو أساس المجتمع الديمقراطي، فان توفير معلومات موضوعية ومحايدة سياسيا حول العملية الانتخابية أو الإجراءات الحكومية، وبيانات حول الحقوق والمسؤوليات الانتخابية أو القضايا التي تتم مناقشتها داخل الحكومة، تتصدر أنشطة مكوناته. وبالتالي تغدو جمعيات المجتمع المدني حلقة وصل بين السلطات والأشخاص الذين انتخبوا هذه السلطات.
وتتيح البيانات والتقارير التي تعدها جمعيات المجتمع المدني للناخبين فهم انعكاس القرارات الحكومية على حياتهم. وتبين لهم ما بوسعهم تحقيقه عن طريق المشاركة الواعية! في العملية الانتخابية. "إن الوعي العام يحول الديمقراطية من أسطورة إلى حقيقة ويجعل الجميع يشعرون بأنهم جزء من العملية، على الرغم من أن الناس قد يشعرون في بعض الأحيان بالإحباط بسبب بطء وتيرة التغيير الديمقراطي".
ويجب أن يعرف الناخبون حقوقهم ومسؤولياتهم في الأنظمة الديمقراطية. ومن الضروري يكون لديهم تواصل مع الأشخاص الذين يصوتون لهم ويعينونهم لتمثيل مصالحهم. ويجب أن يكونوا على ثقة كافية بأن صوتهم مهم في الانتخابات حتى يتمكنوا من التعبير عن آرائهم حول القضايا التي تهمهم، سواء شفهيا أو كتابيًا.
وقد يتضمن البرنامج الإعلامي لجمعيات المجتمع المدني تقديم خدمات ومنتجات توعية مختلفة لأنشطته. وينبغي تطوير مواد إعلامية للناخبين الجدد وتهدف أيضا إلى ضمان إقبال الناخبين. وفي الفترة ما بين الانتخابات، يمكن إنشاء منظمة مبادرة تمثل مختلف حركات الشبيبة، أو يمكن القيام بحملة مراقبة برلمانية للحصول على معلومات حول أداء المسؤولين المنتخبين. ويمكن للتجمعات الاجتماعية أيضا مساعدة اللجان الانتخابية في إعداد المواد الانتخابية أو توفير مساعدين متطوعين.