كتب ويكتب الكثيرون عن خليفة المرجع الديني اية الله العظمى السيد علي السيستاني بالإضافة إلى جهود بعض مراكز البحوث المهتمة بالشأن العراقي، وهذا دلالة على أهمية المرجعية الدينية من النواحي الاجتماعية والثقافية والسياسية، بل أن المرجعية تشكّل في السياق العراقي إشارة إلى مستقبل البلاد بالاستناد إلى ما أدّته في مسألة بناء الدولة بعد٢٠٠٣.
تلتزم مدرسة النجف الدينية ومرجعيتها بقواعد عملياتية وأنماط فكرية وسلوكية تمتد إلى أكثر من ١٠٠ عام شكّلت تقاليد وأعراف شفوية صاغت سلوك المرجع الديني واتجاهاته الفكرية ومواقفه، اذ ترسخت هذه القواعد لتأخذ شكلها الحالي ابتداءً من مرجعية السيد كاظم اليزدي ومزامنه الشيخ محمد كاظم الخراساني، ثم أبو الحسن الأصفهاني والسيد محسن الحكيم والسيد أبو القاسم الخوئي، لتتجسد الآن بمرجعية السيد علي السيستاني. وتتمثل هذه القواعد والأعراف بالابتعاد عن السلطة السياسية ووضع فاصلة بين المرجع الديني والسياسة بما لا يمكن تجاوزها أو السماح للسياسي بالتدخل بالشأن الديني، الأمر الذي يشير إلى استقلالية تحفظ بها المرجعية هيبَتها ووزنَها الشعبيّ كطرف ساند. كما تجعل منها طرفاً محايداً له خصوصية بعدم الإنسياق خلف الانشغالات السياسية إلا في حالات الضرورة، ومنها الطلب منها لإبداء رأيها في قضايا إشكالية أو ما يتعلّق بمصير العقيدة الدينية وديمومة المذهب.
يمثل السيستانيُ هذا التوجه المرجعي من خلال التزامه بالتقاليد الصارمة والحذر من الوقوع في شرك قضايا قد تفقدها قدرتها التأثيرية الاجتماعية والثقافية. ويمكن وصف هذا الحال كونه يمثّل بروداً نمطياً سائداً يجعل المرجعَ الدينيَ في موقع المراقب الحذر البارد دون إظهار ما يعتريه من مشاعر، لكنّه في جوهره متابع عميق ومطّلع جيّد يبحث الأحداث الواقعة مع مكتبه، لا سيما من يعتمد عليهم بالمشورة والرأي، وأحيانا بخبراء سياسيين وتوكنقراط يسألهم عن الموضوعات المتنوعة.
هذه التقاليد والقواعد غير المكتوبة هي من سيكون لها أثر في عملية اختيار خليفة السيستاني كمرجع ديني. وإذا حاولنا تفحص الشخصيات التي يمكن أن نطلق عليها السيستانية القادرة على إبقاء حالة التوازن في المواقف وعدم تجاوز عتبة المحظورات كالعمل السياسي المباشر والتجارة والعيش بترف والانحياز لقوى اجتماعية أو سياسية والتسرع بالإفتاء واتخاذ المواقف، فإنَّ هذه التقاليد والأعراف المنشودة وغير المكتوبة تتمثّل عملياً في الثبات على تقاليد مدرسة النجف وعراقتها وعدم الخروج عن الأنساق الحوزوية المألوفة، ومن المهم أيضاً التميز عن الحوزة الإيرانية في قم كحالة تفرد وبوصفِ الحوزة النجفية تعد نفسها المدرسة الأم التي لا بدّ أن تبقى في المقدّمة.
طبقاً لما سبق وإذا حاولنا إيجاد شخصيات تتوفر فيها هذه الصفات وتحظى برعاية واهتمام السيد السيستاني تبرز لنا مجموعة من الأسماء المؤثرة ومن النمط نفسه وهم: (محمد رضا السيستاني)، و(الشيخ هادي آل راضي) و(الشيخ حسن الجواهري) و(الشيخ محمد باقر الإيرواني). يتمتع هؤلاء برعاية السيستاني والفاعلين بمكتبه ونشاطاته العامة، وهم من تلامذته المميزين وأساتذة مدارسه. وإذا حاولنا المفاضلة بين هؤلاء الأربعة المتقدّمين الصفوف الحوزوية والمتعمقين في تقاليدها يتقدّم محمد رضا السيستاني كأبرز المرشحين المؤهلين لخلافة والده لاعتبارات أهمها سعة ما يحوزه من معارف دينية وقدرات فقهية اجتهادية، ويتجسد ذلك بإدخال مباحثه الفقهية والأصولية في ضمن مناهج التدريس في كلّ من حوزة النجف وقم، وهي سمة تصدره المراتب الدينية. كما أن علاقاته الوطيدة اجتماعياً وحوزوياً تمهد له الطريق باتجاه قمة السلطة الدينية الشيعية، لكن تقف أمام هذا التصدّر عقبة تتمثل في كونه نجل السيد السيستاني، ويمكن لهذه العقبة أن تتلاشى في حالة بروز مرشحين اثنين أو اكثر من الأسماء الواردة. وبشكل متزامن وبمرور الوقت يتبوّء السيدُ محمد رضا قمةَ المرجعية. ومن الضرورة الإشارة إلى عوامل أخرى تشكل دعامة له، منها العمامة السوداء، إذ أن معتمرها يحظى بوقار وتبجيل أكبر شعبياً بوصفه من سلالة الرسول محمد (ص). وخلال هذه الأيام ازدادت حركة السيد محمد رضا الاجتماعية بحضوره لمجالس العزاء والفواتح التي تقام بالمدينة وتواصله مع كبار مدرّسي الحوزة في النجف وكلّها مؤشرات على تقدّمه في سباق الحصول على لقب المرجع الديني الأعلى تساعده عوامل موضوعية تتلخص بضرورة الحفاظ على الخط والتراث السيستانيين بمواجهة خفية مع خط مدرسة قم التي تسعى لإشغال الفراغ بعد وفاة السيستاني والحلول محلّه.
إنَّ وفاة السيد محمد سعيد الحكيم المرشح الأقوى لخلافة السيستاني قد تركت آثارها في هذا الجانب، وعلى الرغم من توفر عدد من المتميزين دراسياً ومعرفياً ضمن النطاق الحوزوي بإسرة آل الحكيم فإنهم ليسوا بعجلة لإعلان كفاءاتهم الفقهية. وهذا عامل مساعد آخر يفتح الطريق أمام السيد محمد رضا المعروف بذكائه واطلاعه الواسع على الأوضاع العراقية، وبوصفه المدير لمكتب والده. كما أنه من المؤيدين بشدة للتقليدية الحوزوية وقد عُرِف عنه اعتداله ودفاعه عن تراث مدرسة النجف.