ليست نصرة المرأة مِن قِبل الشّعراء العّراقيين، في العشريتين الأوليتين مِن القرن الماضي، محصورة في الأربعة الذين سنُذَكّر بمواقفهم الجريئة، فالعدد أكبر.
لكنَّ هؤلاء الأربعة، جمعتهم عمائمهم، اعتمارها والتّخلي عنها، ولم نقصد المناصفة، بين السّنَّة والشّيعة، فلا هم يرضون، ولا نحن راضون بهذا التصنيف، إذا تعلق الأمر بالأدب والثّقافة والحقّوق، ومِن أولوياتها، آنذاك والآن، حقّوق النّساء، فالعراقيات اليوم أقمنَ الدّنيا ولم يقعدنها، واتحدنّ، مِن شتى الطّوائف، عندما تعلق الأمر بحقوقهن المكتسبة، في قانون (188/1959)، والقوم مجتمعون لسلبها. كان وضع المرأة، في الأمس، لا يعينها على المطالبة، فتقدم الرّجال مطالبين لهنَّ، أما اليوم فظهرت المحامية والأكاديمية والطبيبة والفنانة، مِن داخل البرلمان وخارجه، أحرجنَ بحججهنَّ كوادر الأحزاب الدينية، مدافعات عن بناتهنَّ، وحضانة أطفالهنَّ، وعقود زواجهنَّ وطلاقهنَّ، التي يريدون تسليمها لمَن شرع جواز تملُك الرَّضيعة، والبناء في التاسعة، ولا دخل للدولة في حماية مواطناتها.
كان الأربعة: جميل صدق الزّهاويّ(ت 1936)، ومعروف الرُّصافيّ(ت: 1945)، ومحمَّد مهدي الجواهريّ(ت: 1997)، وصالح الجعفريّ(ت: 1979)، بسبب مواقفهم نبذتهم أسرهم وأترابهم، مِن المعممين. كتب الزّهاوي قائلاً(1910): «المرأة أول مَن حنَّت عليَّ، عندما كُنت ضعيفاً، احتاج إلى حنو قوي يتعهدني، ويدرأ عني مزاحم الحياة، عندما كنتُ طفلاً أرضع اللّبان مِن ثدي أمِّي... والمرأة أول معلم علمني...»(الرشوديّ، الزَّهاويّ دراسات ونصوص). كذلك أغضبتهم دعوته للمساواة: «علموا المرأة، فالمرأة عنوان الحضارة/ إنما المرأةُ والمرء سواءٌ في الجدارة» (الغبان، المعارك الأدبية).
طالب الزّهاوي للعراقيّة، أن تكون برلمانيّة وقاضية، يوم كانت البرلمانات خالية منهنَّ، قائلاً: «للمرأة اليوم في مجلس القضاء محلٌ/ للمرأةِ اليوم في البرلمان عقدٌ وحلُ/ للمرأة اليوم في استكشاف الحقائقُ شغلُ». (عزُّ الدِّين، الشّعر العراقيّ الحديث). إذا كان الزّهاوي ابن مفتي بغداد، وأخو مفتيها، وكان معمماً، كُفِّر وفُسقَ، لم يكن مجايله الرُّصافي أقل وصماً بالإلحاد والزَّندقة، وهو تلميذ محمود شُكري الآلوسيّ(ت: 1924). قال: «ظلموكِ أيتها الفتاة بجهلهم/ إذ أكرهوك على الزَّواج بأشيبا/هل يعلم الشّرقيّ أنَّ حياته/ تعلو إذا ربى البنات وهذبا/ وقضى بالحقِّ دون تَحكمٍ/ فيها وعلمها العلوم وأدبا»(عزَّ الدّين). ما إنْ امتنع الوسط الدّيني مِن السّماح بفتح مدرسة للبنات بالنَّجف(1929)، ثار الجواهريّ بتائيته «ليقرأ الرّجعيون»، فاجتمع المنددون، وفي مقدتهم آل الجواهريّ ضد ابنهم، وكان احتجاجه شديداً، قبل التخلي عن عمامته، قال فيها، وهي القديمة الجديدة: (ستبقى طويلاً هذه الأزماتُ/ إذا لم تُقصر عمرها الصَّدماتُ/ إذا لم ينلها مصلحون بواسلُ/ جريئون في ما يدعون كفاةُ/ بيوتٌ على أبوابها البؤسُ طافحٌ/ وفي داخلهنَّ الأُنس والشّهواتُ/ غداً يمنع الفتيان أنْ يتعلوا/ كما اليوم ظلماً تمنعُ الفتياتُ)، ومحذراً: «وما هي إلا جمرةٌ تنكرونها/ ستأتيكمُ مِن بعدها جمرات»(الغبان). ثارت على الجعفريّ، للسبب نفسه، النَّائرة في دار ذويه آل كاشف الغطاء، فقال لهم: «إنني اليوم سوف لا أحملُ لقب أسرتنا»- كاشف الغطاء- فأخذ ينشر باسم جده جعفر الكبير(ت: 1812)، فكانت قصيدته «هذبوها» (1930): «النّواميس بينكم شرعٌ/ فهي أُنثى والآخر ذَكرُ/ كيف يعطي ثمارَهُ شجرٌ/ في الحصى والتّراب مُنقبرُ». ثم قال: «وقيدٌ طالما قُيدتُ فيه/ وأهونُ بالرّجال مقيدينا/ نبذتُ به ورائي لا أُبالي/ وإنْ غضب الكرام الأقربونا/حناناً يا أماثُلنا حناناً/ حناناً أيها المستبدونا/ تبعناكم على خطأٍ سنيناً/ فأسفرت الحقيقة فأتبعونا»(الغبان). هذا، ولعلّ تراث الأربعة، يُفجر همة شعراء اليوم، بقصائد ومواقف، صحيح أنَّ الدَّاعين إلى تسليم أمور النِّساء للفقيه، بعزل الدّولة عنها، بدأوا بالشتائم ضد النساء المحتجات وبالنّجف، وما هي إلا خطوةٌ قبل الكواتم، لكنّ الأربعة سجلوا ملاحمَ، ارتفع بها المجتمع، وانتكس المتزمتون، فذاك زمانهم، وهذا زمانكم، فأين أنتم؟