رجل كالرجال الآخرين» لسالاكرو: صورة الذات وصراع الحقيقة والوهم
نشر بواسطة: Adminstrator
الإثنين 25-01-2010
 
   
الحياة
>لا يتمتع الكاتب المسرحي الفرنسي آرمان سالاكرو، بالشهرة العالمية التي كانت طوال القرن العشرين، من نصيب مجايلين له ومواطنين من كتّاب المسرحيات. غير انه، في الداخل الفرنسي على الأقل، يحظى باحترام كبير، تتيحه له، عملياً مسرحياته الكثيرة التي كتبها طوال عقود من الزمن، ولكن أيضاً ما يعرف عنه من أنه منذ شبابه تخلى عن أعمال تجارية له ناجحة، كانت تدر عليه مدخولات كبيرة، كي يتفرغ للكتابة المسرحية، مفضلاً مجد الفن على مجد المال. من هنا، حتى وإن كان من الصعب القول ان مسرحيات سالاكرو كلها تحظى بإجماع النقاد - وهو إجماع يصعب تحقيقه في الحياة الثقافية الفرنسية التي كانت دائماً منقسمة على نفسها، إيديولوجياً على الأقل، في زمن الصراعات والأفكار الكبرى والارتباط الجوهري بين ما هو فني وما هو سياسي - فإن شخصية الرجل نفسها كانت مميزة وتلقى تقديراً حتى من جانب خصومه الفنيين أو الفكريين. ومن هنا، حين رحل سالاكرو عن عالمنا عام 1989، عن عمر يناهز التسعين، كان من الطبيعي أن تدبج مقالات المديح في حقه وان يعاد التذكير بكم ان مسرحه كان أخلاقياً وعميقاً، وذا جدية حقيقية في طرح التساؤلات والهموم الإنسانية كما بدت خلال القرن العشرين.
< وفي الأحوال كافة، حتى وإن كان ثمة ما يشبه الإجماع لدى دارسي حياة سالاكرو وأعماله، على أن الرجل بدأ سوريالياً، أو على الأقل متأثراً بالسورياليين، لينتهي في حقبته الأخيرة وجودي النزعة، أو على الأقل متأثراً بنوع من الوجودية يتراوح بين تيارها اليساري (سارتر) وتيارها المحافظ والمؤمن (غابريال مارسيل)، حتى وإن كان هذا الطرح يلقى ما يشبه الإجماع، فإن من الصعب إدراج كل مسرح سالاكرو، في بوتقة فكرية أيديولوجية واحدة. فمسرحه كان، بعد كل شيء، مسرحاً متنوعاً، يسير على هدى السائد من أسئلة وأفكار. لا يعني هذا انه كان يساير زمنه، بل يعني - تحديداً - انه كان يعرف تماماً كيف يطرح أسئلة زمنه. ولعل مسرحيته التي عرضت في باريس للمرة الأولى عشية الحرب العالمية الثانية، لتعرض مع بعض التعديل، في قالب احتفالي، مرة ثانية بعد تلك الحرب، ونعني بها مسرحية «رجل كالرجال الآخرين» تشكل الدليل الساطع على ما نقول. حيث ان المسرحية نفسه بدت في كل مرة من مرتي عرضها الأوليين، مختلفة، إن لم يكن في الشكل والأحداث والشخصيات، فعلى الأقل في الجوهر والدلالة.
> من ناحية مبدئية، يصعب القول إن هذه المسرحية هي الأشهر والأقوى - فنياً وفكرياً - من بين مسرحيات سالاكرو... لكنها في الوقت نفسه تكاد تكون الأكثر دلالة على فكر هذا الكاتب وتطور فكره. بل في شكل أخص، تماشي هذا الفكر مع الزمن وإيقاعه. ومع هذا قد لا تعدو هذه المسرحية، في اطلالة أولى عليها، أن تكون عملاً حميماً، يحاول ان يتناول ما اصطلح على تسميته بـ «أزمة الزوجين»، أي تراكم أو تفاقم الأسئلة التي قد يطرحها زوجان على نفسيهما، في صدد علاقتهما وشؤون الحياة الأخرى، بعد أعوام عدة من العيش معاً. غير ان المسرحية أعمق من هذا بكثير، إذ انها سرعان ما تتجاوز كونها «أزمة زوجين» لتغوص في هوية الفرد إزاء ذاته، في أسئلته عن ذاته. في نظرته الى هذه الذات على ضوء نظرة الآخر اليه. ومن هنا، في هذه المسرحية بالتحديد، لا تعود المرأة - التي هي الطرف الآخر في العلاقة الثنائية - سوى تلك المرأة التي يشاهد الرجل نفسه فيها. المرأة التي يدرك ذات لحظة مفصلية في حياته، هي اللحظة التي تعيّشنا اياها المسرحية، انها انما تقدم عنه صورة مختلفة عما بات يتصور انه حقيقته. طبعاً نقول هنا صورة مختلفة ولا نقول صورة مشوهة، كيلا تختلط الأمور في بعضها بعضاً.
>ان سالاكرو نفسه يلخص حبكة المسرحية على النحو التالي: ما لدينا هنا انما هو رجل تحبه زوجته الى حد التبجيل. لكنه، هو، سيتطلع ذات يوم الى أن تحبه امرأته لما هو عليه حقاً، وليس للصورة التي بنتها لنفسها له، طوال سنواتهما السابقة. فالصورة مثالية الى أبعد الحدود... لكنها - طبعاً ليست صحيحة - وهذا ما يجعل صاحبنا أمام واقع قلقه يفيده بأن حب امرأته له انما هو حب زائف، طالما انها تحب تلك الصورة. ومعنى هذا بالنسبة اليه هو ان المرأة تحب شخصاً «آخر» لا الرجل الحقيقي الذي هو زوجها وموضع حبها. بيد ان المشكلة الحقيقية ليست، حتى، هنا، بل في واقع ان راؤول، وهو اسم الرجل، أمضى كل السنوات الماضية وهو ينظر الى نفسه انطلاقاً من نظرة زوجته ايفلين اليه. وهذه النظرة، التي كان يستسيغها وراضياً عنها، جعلته يعيش حلماً ذاتياً وردياً. لكنه في ذلك اليوم الانقلابي، يدرك ان الصورة التي بنتها ايفلين وتبناها هو، ليست صورته الحقيقية، بل صورة رجل وهمي. وعلى هذا النحو بات راؤول يشعر انه انسان بلا هوية، وبلا صورة. وهذا الأمر يرضيه من ناحية ويزعجه من ناحية أخرى بزعمه لأنه صار سجناً له مكبلاً. صار من المحتم عليه كي يعيش في ظل هذه الصورة الوهمية ان يمضي بقية حياته ممثلاً شخصية الآخر، متقمصاً ما بات يعرف أنه ليس هو. لكنه يرضيه طالما بات يدرك انه حين يتمكن من اقناع زوجته بما «اكتشفه» هو حول ذاته، سيتمكن من الحصول على حريته أخيراً... حريته من أسر الصورة الوهمية. ومن هنا، في الوقت الذي كان في مقدورنا أن نتخيل الصراع حاداً بين راؤول وإيفلين، نفاجأ بأن الصراع الحقيقي هو الآن بين راؤول وذاته... بين صورته القديمة التي كان مرتاحاً اليها، وصورته الحقيقية «الجديدة» التي من الواضح ان ايفلين غير مسرورة باضطرارها التي تبنيها من الآن فصاعداً...
< والحقيقة ان الدافع الذي حرك راؤول في ذلك اليوم كي يبدأ الإصرار على «صورته الحقيقية»، يكمن في خلفية هذا كله... إذ انه حدث له ان وقع في ورطة أسقطته من علياء الزينة الخارجية التي كانت له. وهذه الورطة التي وضعته على حافة البؤس، جعلته عاجزاً عن مواصلة اللعبة القديمة. ومن هنا نراه يصرخ فجأة في وجه زوجته: «انك في الحقيقة لا تحبين سوى ذلك «الرجل الآخر» الذي صنعته من تخيلاتك وألبستني رداءه. وبالتالي فإن المساندة والسعادة اللتين قدمتهما إلي طوال سنوات كانتا مزيفتين، لكنهما كانتا أيضاً ثمناً لولوجي في لعبتك. وهذا كله أ لا دخل لي فيه. فاتركيني أكون من الآن وصاعداً ما أنا عليه في حقيقتي... ويا حبذا لو يكون في امكانك ان تحبيني كما أنا في حقيقتي هذه». وهنا لن يفوتنا أن نذكر ان سالاكرو في كتابته لهذه المسرحية، انما حرص على التركيز على الجانب الأخلاقي من المسألة برمتها. وهذا يتماشى في الحقيقة مع جزء أساس من مسرح ارمان سالاكرو الذي، سواء كان سوريالياً متأخراً، أم وجودياً مبكراً، فإنه كان دائماً مسرحاً أخلاقياً. وصاحبه ظل حتى رحيله عند نهايات القرن العشرين مرجعاً أخلاقياً في فرنسا يُلجأ اليه، في مرات عدة لقول كلام في السياسة أو الفن أو المجتمع يعيد الى قلقين في المجتمع الفرنسي بعد طمأنينتهم... الأخلاقية.
> ولد ارمان سالاكرو (1899 - 1989) في مدينة روان في الغرب الفرنسي، لكنه درس وترعرع في مدينة الهافر. وهو في شكل عام ظل بعيداً من الانتماء الى الحالة الثقافية الباريسية حتى وإن كان انتقل الى باريس منذ العام 1917. وهو، إذ كان في مطلع شبابه مالكاً شركة اعلانات ناجحة... تخلى عن الشركة باكراً ليكرس وقته كله للكتابة المسرحية في شكل خاص. ويبلغ مجموع ما كتبه من مسرحيات بين عامي 1923 و 1966 - الذي اعتزل الكتابة من بعده - أكثر من 25 مسرحية.

 
   
 


 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced