مدارس طينية، وأخرى ثلاثية الازدواج، وسواها مكتظة بالطلاب أو يرغم فيها التلاميذ على أداء أعمال التنظيف .. وكلها تفتقر الى أبسط الشروط الصحية. ومن هذه وسواها من مدارس العراق "الجديد" يتسرب الأطفال، فتلقي بهم رياح المعاناة الى عالم البؤس والحرمان والضياع.
فهذا طفل مشرد هائم في الشوارع، وتلك طفلة استأجرها شحاذون "متمرسون"، وذلك تحوّل الى جانح، وآخر الى مدمن مخدرات. و"سعيد الحظ" ذلك الذي يتنقل بخفة بين السيارات عند تقاطعات شوارع العاصمة، لينظف، متوسلاً، زجاج السيارات، أو يبيع المناديل الورقية ... والقائمة تطول.
ومع أن هذه البلاد، التي ابتكرت علم الحساب، لا تحترم ثقافة الاحصاء، فان معظم احصاءاتها تبعث على العجب والترويع. ولعل ما نقلته الأنباء، مؤخراً، عن وكيل لوزير التربية بشأن وجود خمسة ملايين أمي يشكل حقيقة صادمة، تضاف الى تلك الحقائق التي ترسم صور مآسي هذه البلاد وأزماتها المستعصية.
وليس مما يثير الاستغراب أن تكون النسبة الغالبة في جيش الأميين العظيم من النساء. فالثقافة السائدة، وهي ثقافة بطرياركية الجوهر، تميل، بالطبع، الى حرمان النساء من التعليم أو، في الأقل، الاستهانة بأهمية تعليمهن، فقد ولدن للعناية بالبيت والأطفال، باعتبارهن رقيق المنازل. وتشير احصائيات للأمم المتحدة الى أن نسبة النساء الأميات تشكل 70 في المائة. وكيف لا تبلغ النساء هذه النسبة وهن ضحايا العنف والتمييز، وقائمة معاناتهن تبدو بلا نهاية ؟
ولعل من باب الدلالة البليغة أن نذكّر هنا بحقيقة أنه بعد ثورة 14 تموز 1958 فتحت عشرات من مراكز محو الأمية والتدريب المهني، وتطوعت المتعلمات في رابطة المرأة العراقية للنهوض بهذه المهمة. وتشير الاحصائيات الى أن عدد المنتسبات بلغ الآلاف، وتابع بعضهن الدراسة وتخرجن معلمات وممرضات، واكتسب بعضهن مهارات تحررن عبرها اقتصادياً. وليست هذه سوى صفحة واحدة من صفحات ثورة تموز التي يريد البعض طمس ما حققته من انجازات للمرأة، وبين أهمها قانون الأحوال الشخصية ومكافحة الأمية.
أما في العراق "الجديد" فيتسرب أفواج من طلاب المدارس الابتدائية خصوصاً لينضموا الى جيش الأميين السائر في ليل الجهل الطويل الحالك الظلمة. ومن الطبيعي أن هذا الجيش بدأ يستقبل منتسبيه ارتباطاً بعواقب حروب الدكتاتورية والدمار الذي حل بالبلاد على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وفي سنوات "مابعد التحرير" تعاظمت معضلة الأمية، وتوقف أو همِّش ما تبقى من عملية محوها. وترافق هذا التدهور مع مشكلة خطيرة أخرى تمثلت في تسرب الأطفال من المدارس. وتعود أسباب التسرب، من بين أمور أخرى، الى التدهور الأمني والتهجير الطائفي، مما دفع بكثيرين الى ترك مقاعد الدراسة، والتوجه، في ظل ظروف الفقر والبطالة، الى العمل سدّاً للرمق، أو التشرد في الشوارع والتحول الى ضحايا لهذا التشرد. وترتبط مشكلة التسرب بعوامل عديدة بينها طبيعة المناهج وأساليب التعليم وضعف دور الأسرة وعلاقتها بالمدرسة. وأدت المصاعب المعيشية بالعديد من العوائل الى الضغط على أبنائهم لترك مقاعد الدراسة والتوجه الى العمل حيث يجري استغلال الأطفال على نحو بشع. وليس من العسير القول إن البيئة العراقية الراهنة باتت حاضنة للأمية، ومساهمة في تدهور واخفاق العملية التربوية.
وفي ظل هذه المعاناة المريرة مازال مشروع قانون محو الأمية، الذي قدم الى مجلس النواب منذ عام ونصف، غير مصادق عليه.
* * *
بينما تشتد الأمية الثقافية والسياسية أيضاً، وتترك عواقب الاستبداد وغسيل الأدمغة والانحدار الروحي آثارها المدمرة على الانسان العراقي، وتنفضح وعود "المحررين" و"المقررين" التي أوصلت البلاد الى الأزمات المستعصية في سائر الميادين، يتصارع المتنفذون على الامتيازات، و"يسيّسون" كل شيء، وهم منشغلون بقضايا "أعظم" في سياق توجههم الى الانتخابات، إذ تتعالى التصريحات فاقدة المصداقية، فيما يتعاظم سخط الملايين على الواقع المأساوي، ويتفاقم يأس الناس من سياسيين اهتزت الثقة بهم وببرامجهم وبخطاباتهم التي تذر الرماد في العيون، فتستهين، في الواقع، بمعاناة المحرومين ومغيّبي الارادة.
يحق للمرء أن يتساءل: هل نضجت ثمار "الديمقراطية" بحيث بلغ عدد الأميين خمسة ملايين، بينما بلغ عدد الأرامل والأيتام ثمانية ملايين، وزاد عدد المعوقين على المليونين، وقائمة الاحصاءات مروّعة.
هذا هو العراق الذي أراده "محرروه" نموذجاً يحتذي به، ونحن في العام السابع على "التحرير" .. عراق الذهب الأسود الذي يقال، ربما في إطار تفكير رغائبي، إنه سيكون بعد ست سنوات من أكبر البلدان المصدرة للنفط، والذي لم يخصص في ميزانيته للعام الحالي 2010، التي يتوقع أن تبلغ 66.7 مليار دولار، حتى دولار واحد لمحو الأمية، بينما تقلصت نسبة الانفاق على القطاع التربوي على الرغم من تأكيد مجلس الوزراء على إعطاء أولوية في الموازنة للجانبين التربوي والصحي.
يا للنور الغائب في بلاد الأبجدية التي راحت تقتل علماءها وتشرّد مفكريها !
يا للظلام الذي طغى فتجبّر، حتى كأننا أمام ذلك الليل الذي أرخى، كموج البحر، سدوله على امريء القيس !
أما آن لهذا الليل أن ينجلي !؟
طريق الشعب - 26/1/ 2010
كتب بتأريخ : الثلاثاء 26-01-2010
عدد القراء : 2614
عدد التعليقات : 0