حملت العملية السياسية في العراق وعوداً زاهية بحرية التعبير كحقٍ أصيل يضع حداً لإرث القمع والاستبداد، إلا أن الواقع يشهد تضييقاً متزايداً على الحريات، حتى أصبحت ممارسة حرية التعبير اختباراً شاقاً لكل من يخرج عن سردية السلطة.
كان القمع في النظام السابق، مباشراً ووحشياً، يُمارس بإسكات الأصوات المعارضة بالقوة. أما اليوم، فالقمع بات ناعماً، يتجسد في أدوات قانونية وإدارية تبدو مشروعة، لكنها تستهدف ترهيب الناقدين. وهذه الأساليب تُنتج مناخاً من الرقابة الذاتية والخوف، يحوّل حرية التعبير إلى عبء على المواطن بدلاً من كونها حقاً مكفولاً.
لا يمكن فهم هذا الواقع دون النظر إلى البعد الطبقي. فغالبية من يحملون لواء الاحتجاج والمطالبة بالإصلاح ينتمون إلى الطبقات الكادحة والشباب العاطلين عن العمل، الذين يُنظر إليهم على أنهم تهديد أمني. وفي انتفاضة تشرين، تجلت روح الكفاح الطبقي عندما خرج شباب الناصرية مطالبين بالعدالة الاجتماعية والحقوق الأساسية. لكن بدلاً من الاستماع إليهم، تعرضوا للاعتقال والمحاكمات، ليتم وأد حراكهم لأنه مسّ مصالح المتنفذين.
من جانب آخر، رفع رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي دعوى قضائية ضد الكاتب (قيس حسن) لمجرد انتقاده أداء رؤساء الوزراء، في مثال واضح على استخدام القضاء لتكميم الأفواه وتوجيه رسالة بأن النقد الفكري لا يُسمح به. كذلك، أنهت شبكة الإعلام العراقي خدمات الإعلامي (صالح الحمداني) بسبب تغريدة شخصية. هذه الحوادث تبيّن كيف يتم قمع الأصوات الإعلامية بذرائع واهية لإحكام السيطرة على الفضاء العام.
القمع الناعم ليس مجرد وسيلة عابرة، بل هو استراتيجية تهدف إلى ضمان استمرار هيمنة طغمة الحكم على الاوضاع السياسية والاقتصادية. حيث تستخدم أدواتها بدعوى الحفاظ على (النظام العام) أو (المصلحة العامة)، لكنها في جوهرها تُعمّق الانقسام الطبقي وتقوّض أي محاولة لفضح الفساد والمحاصصة.
حرية التعبير ليست ترفاً أو امتيازاً قابلاً للمصادرة، بل هي حق أساسي يضمنه الدستور والمعاهدات والمواثيق الدولية، وأي محاولة لتقويضه تعني العودة إلى مربع الاستبداد. والعراق بحاجة إلى فضاء واسع للنقاش، ومناخ يحتضن الاختلاف ويُعلي قيمة الكلمة. وان حرية التعبير هي الأمل الوحيد لمواجهة القمع الناعم الذي يخدم الطبقات المنتفعة من استمرار الأزمات. إنها ليست تهديداً، بل فرصة لبناء دولة قوية تُصغي إلى جميع الأصوات وتفتح أفقاً جديداً لتصحيح المسار.
العراق أمام مفترق طرق: فإما دولة تُحترم فيها الكلمة وتُصان فيها كرامة المواطن، أو نظام يُعاد فيه إنتاج الفشل عبر إسكات الجميع. هذه ليست معركة فردية، بل نضال جماعي، تتحمل مسؤوليته القوى الديمقراطية والحركات الاجتماعية المعبرة عن كرامة المواطن في آنٍ واحد.
ان العراق لا يحتاج فقط إلى حرية التعبير كحقٍ مُصان، بل إلى مناخ فكري يحتضن النقد، وفضاء يُتيح سماع أصوات معارضي المحاصصة والفساد والسلاح المنفلت. وهذا ليس مطلباً نخبوياً، بل شرطاً أساسياً لبناء دولة مدنية ديمقراطية على قاعدة العدالة الاجتماعية، دولة تليق بتضحيات العراقيين.
طريق الشعب