بداية، لابد من الاشارة الى أن الرئيس بوش الإبن ظل طوال حملته الإنتخابية منتقدا لمستوى تسلح وتنظيم الجيش الأمريكي ومحاولات إصلاحه من طرف سلفه (بيل كلينتون)، حيث صرح – أي بوش - بأن الجيش الأمريكي لا زال منظما لمواجهة تهديدات "الحرب الباردة" أكثر من تنظيمه لمواجهة تحديات القرن الجديد.
ووعد بوش، في حال انتخابه، بمراجعة أوضاع الجيش من الأسفل إلى الأعلى، وبناء جيش القرن الحادي والعشرين. وبعد وصوله الى (البيت الأبيض)، برزت عدة تساؤلات من قبيل: ما هي ملامح الإستراتيجية الأمنية الأمريكية؟ وفيمَ تمثلت أبرز التغيرات فيها؟ وما مدى انعكاس ذلك على التواجد العسكري الأمريكي في العالم والمصالح الأمريكية؟
ولعل من ابرز ما ميّز الإستراتيجية الأمريكية خلال فترة بوش الإبن ظهور مصطلح ما سمى بـ "الحرب الاستباقية".
ومن المفيد التذكير هنا الى أنه برزت في نفس الفترة الإستراتيجية الأمريكية المرتكزة على الصدمة والرعب والتي عملت على إلغاء أو تضييق الحدود الفاصلة بين الدفاع والهجوم، الأمر الذي سبب إشكالية على المستوى السياسي في التعاطي مع هذا السلوك دوليا، وعلى المستوى النظري الذي يتطلب البحث والتطبيق وعلى المستوى العملي في تحديد المستوى المطلوب من الردع أيضا، واختيار الأدوات والأساليب المناسبة لتحقيقه، والتي تصب دائما في معادلة التوازن بين الانتشار العالمي وتكلفته. لذلك يمكن القول أن العقيدة العسكرية تلبست بثوب الآيديولوجيا، و أضحت موازية للآيديولوجيا السياسية لنظام الحكم في عهد الرئيس (جورج دبليو بوش)، وتمتاز بالرسوخ والثبات في المستويات العليا، وتدخل ضمن اختصاصات القيادة السياسية. وهذه العقيدة التي أقيمت في زمن "الحرب الباردة" على الردع المقابل، تجاوزتها الولايات المتحدة لتنتقل بعد تفكك الاتحاد السوفيتي السابق إلى إستراتيجية الردع الأحادي الجانب، وهي أقرب إلى الإرهاب.
ولابد من التأكيد هنا، ارتباطا باستراتيجية بوش الدفاعية، أنه ورغم أن إيجاد توازن بين القوتين النووية والتقليدية قد أثقل كاهل الرؤساء الأمريكيين على مرّ العقود السابقة، فإنه تعيّن على الرئيس الأمريكي حينذاك (جورج دبليو بوش) أن يبحث عن استراتيجية دفاعية ذات ثلاثة أبعاد: النووي والتقليدي والارهاب. وفي حين أن الأسلحة التقليدية لم تتوقف عن استنزاف معظم الموارد الدفاعية في مناطق مثل: البلقان، وهايتي، وكوريا الجنوبية، والمحافظة على الجاهزية للتصدي لأعداء محتملين مثل: كوريا الشمالية، وإيران، والعراق في وقت من الأوقات، فإن التهديدات النووية رغم انحسارها بعد انتهاء "الحرب الباردة" فإن شبحها مازال يلوح في الأفق في مناطق اخرى.
والتطور الجديد الذي حصل، في حينه، هو أن الإرهاب قد أطل برأسه كبعد ثالث في المعادلة، وهو نوع جديد من أنواع الحرب على المستوى الاستراتيجي لا يدخل ضمن إطار النموذجين النووي والتقليدي. والتجربة أظهرت ان الاستراتيجية الأمريكية وتشكيلة قواتها كانت تعاني من قصور في مواجهته. والإرهاب كتكتيك ليس ظاهرة جديدة، إذ اكتوت الشعوب بنيرانه على مدى قرون من الزمان، ولكن أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 أظهرت استعداد المتطرفين لشنِّه بأشكال استراتيجية جديدة لا تخطر على بال أحد. وهكذا برز ما سُمى بـ "خطر" احتمال امتلاك مجموعات راديكالية – إرهابية" لأسلحة تدمير شامل أو جزئي (بيولوجية– كيماوية– بيولوجية) وقد اخذ هذا "الخطر المحتمل" حيزاً مهماً في إستراتيجية الدفاع الأمريكية الجديدة التي اقرها الرئيس الأمريكي جورج بوش في خطاب له في 1 حزيران 2002.
وقد قاد هذا التحول الى بروز مضامين إستراتيجية جديدة لمفاهيم من قبيل "الأمن العالمي"، "الخطر" و "التهديد" في ظل خصائص مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وذلك بتراجع حدّة معادلة الصراع الشامل بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، لحساب أخطار إقليمية جديدة ونزاعات ذات أبعاد عرقية، اثنية قومية، سياسية وحدودية تتمركز أساسا في "الجنوب"، قد يأخذ شكل الصراع مع جماعات وشبكات دولية ليس بالضرورة أن تكون مرتبطة أساسا بالدول والحكومات.
وحسب راسمي الاستراتيجية في الولايات المتحدة الأمريكية فإن مكافحة هذا الشكل الجديد من أشكال الإرهاب تتطلب طريقة جديدة في التفكير، وتقنيات متطورة، واستخدام العمليات السرية والقوات الخاصة على نطاق واسع، وتخصيص موارد إضافية، فضلاً عن الاحتفاظ بمقدرات نووية وتقليدية، وتتمثل المسألة الأكثر إلحاحاً في صياغة عقيدة استراتيجية لا تقتصر على بعدين من أبعاد الحرب، وإنما حرب ثلاثية الأبعاد.
مشروع القرن الأمريكي الجديد (PNAC)
كما معلوم فإنه في أيلول/سبتمبر 2000 وقبل استلام إدارة (جورج دبليو بوش) ظهر تقرير سميّ بـ (مشروع القرن الأمريكي الجديد The Progect for the New American Century) والذي يعرف اختصارا بـ (PNACوهو مشروع أعد من طرف أحد مراكز الفكر (Thinktanks) الرئيسة الموجودة في واشنطن واسمه (معهد أبحاث سياسات للمحافظين الجدد) مقره في واشنطن العاصمة ويركز على السياسة الخارجية للولايات المتحدة. كان أبرز المساهمين في الإعداد حينذاك نائب الرئيس (ديك تشيني)، ووزير الدفاع (دونالد رامسفيلد). كما سمي هذا التقرير "إعادة بناء دفاعات أمريكا: استراتيجية، قوات وموارد لقرن جديد" واعلن ان الولايات المتحدة لا توجه أي منافس عالمي، و يتعين على استراتيجية أمريكا الموسعة ان تستهدف الحفاظ على وضعها المتفوق واطالة أمده الى أبعد مدى ممكن في المستقبل"، ومن شأن هذا ان يلزم الولايات المتحدة بتحديث جيشها، مذكرا في الوقت نفسه أن عملية التغيير ستكون بطيئة جدا بغياب أحداث كارثية بحجم كارثة "بيرل هاربر" في الحرب العالمية الثانية .
ومن المعروف انه وفي سياق بناء الإستراتيجية الجديدة، تنطلق رؤية المحافظين الجدد من مقارنة أوردتها دراسة مشروع القرن الأمريكي الجديد بين التحديات الإستراتيجية التي واجهت أمريكا إبان الحرب الباردة وبين تلك التي يفترض أن تواجهها في القرن الحادي والعشرين,
ولابد من الاشارة الى أن مشروع القرن الأمريكي الجديد (PNAC) يعترف بأنه مدين لوثيقة سابقة، تم إعدادها عام 1992 بواسطة وزارة الدفاع وبتوجيهات من ديك شيني وبول وولفويتز اللذين كانا يشغلان منصبي وزير الدفاع ووكيل وزارة الدفاع للشئون السياسية، على التوالي. وقد تأسس (PNAC) في ربيع عام 1997 كـ "منظمة تعليمية غير ربحية"، وبتمويل روبرت كاگان Robert Kagan أحد المحافظين الجدد المشهورين، وويليام كريستول William Kristol الكاتب في صحيفة ويكلي ستاندارد Weekly Standard. ويعتبر مشروع القرن الأمريكي الجديد (PNAC) جزءاً من (مشروع المواطنة الجديد New Citizenship Project) والذي كان يرأسه ويليام كريستول William Kristol أيضاً، وقد وصف بأنه "منظمة تعليمية لاربحية هدفها تعزيز القيادة الأمريكية للعالم". وأعلنت المنظمة أن "الريادة الأمريكية مفيدة لأمريكا وللعالم"، وأنها تسعى لبناء دعم من أجل "السياسة الريغانية للقوة العسكرية والوضوح الأخلاقي".
ومن الناحية التاريخية فان (مشروع القرن الأمريكي الجديد) هو تطوير لاعتقاد كريستول و كاگان بأن الحزب الجمهوري يفتقد "الرؤية المقنعة حول السياسة الخارجية الأمريكية"، مما سمح للقادة الجمهوريين بتوجيه انتقادات لاذعة لسجل السياسة الخارجية للرئيس بيل كلينتون.
وعندما خرج المشروع الى الوجود في عام 1997 فقد أكد بالحاح على شيء واحد فقط هو تأسيس امبراطورية أمريكية عالمية، تنحني لها كل الدول دون استثناء. فالمفكرون في هذا المركز لم يستريحوا لكون الولايات المتحدة آخر القوي العظمي واعظمها شأنا، لا تعمل الكثير في المجالين الاقتصادي والعسكري، للهيمنة على العالم تحت المظلة الامبراطورية الأمريكية. وبما أن الآيديولوجيا تعد احدى وسائل التأثير الامريكي في العالم، فان الامبراطورية تستلزم ايضا جملة من البنى والسيرورات اللازمة لممارسة السيطرة وضمان ديمومتها، وهنا فإن "الأمة" هي محور الحياة الأمريكية. وطبعا الأمة هنا ليست وعاء الاسطورة فقط، بل هي أداة لصناعة الأساطير. هكذا كان "الخوف، الخوف المفرط" هو الشرط الامريكي. ان "تعيش في أمريكا يعني ان تكون محاصرا باشكال محتملة من الأذى، الاعداء، والنوايا الخبيثة. فالذئب لم يبارح الباب قط" إذ في غياب الخوف ليست هناك أمريكا. وما يثير الانتباه هنا ان الولايات المتحدة تدعي أنها قلعة السلام والديمقراطية، إلا ان الواقع يختلف جذريا عن هذا التصور. فالولايات المتحدة انبثقت عن حرب معينة، توسعت وبرزت بوصفها امبراطورية من خلال الحرب، وهي تصون هيمنتها الكوكبية من خلال الحرب، اقتصادها هو اقتصاد حرب، تدعم وتدير آلة عسكرية هي الاضخم والأكثر فتكا في عالمنا المعاصر.
جوهر تلك الآيديولوجية - إن صح هذا التعبير - لُخص في ورقة قدمت في سبتمبر2000 بعنوان: إعادة بناء الدفاعات الأمريكية لولوج القرن الجديد، الاستراتيجية منها والعسكرية والاقتصادية. وتحت العنوان هذا تم تحديد المطلوب من أمريكا لأجل تحقيق هذا الغرض والذي تمثل في:
1ـ تأسيس قواعد عسكرية دائمة في جنوب أوروبا وجنوب شرق آسيا وفي الشرق الأوسط.
2ـ تحديث القوات الأمريكية بصورة منتظمة ودائمة، بما في ذلك التطوير المستمر للطائرات المقاتلة والغواصات وقدرات الأساطيل.
3ـ تطوير ونشر نظم الدفاعات الصاروخية وضمان السيطرة الاستراتيجية علي الفضاء العسكري.
4ـ السيطرة المطلقة علي فضاء الاتصالات والانترنت والأقمار الاصطناعية.
5ـ زيادة الانفاق العسكري، بحيث لا يقل في وقت من الأو قات عن 3.8% من الناتج المحلي الاجمالي.
وبشكل منذر بالخطر، وصفت وثيقة (PNAC) أربع مهام رئيسية للقوات المسلحة الأمريكية:
(1) أن تخوض الحروب؛
(2) وان تحسم النصر في حروب كبيرة ومتزامنة؛
(3) وأن تتخذ الاجراءات الواجبة، بما في ذلك؛
(4) اعادة التركيب، لتوفير الأمن في المناطق المتوترة.
إذا لخصنا النظرة الى هذا المشروع فانه يمكن القول انه عبارة عن مخطط لهيمنة الولايات المتحدة على العالم، اي إنشاء إمبراطورية أمريكية عالمية لتركيع جميع الدول والشعوب، انه "نظام عالمي جديد" من صنع أيدي هؤلاء المحافظين الجدد. ويمكن الاتفاق مع ما قاله تام داليل Tam Dalyell وهو برلماني بريطاني من حزب العمال ومعارض لسياسة الحرب عندما اشار الى ان "هذه هي العملية الفكرية للأمريكيين الحالمين الذين يريدون السيطرة على العالم. هذه قمامة جاءت من المراكز الفكرية المليئة بالصقور. إنهم رجال لم يسبق أن رأوا فظاعة الحرب ولكنهم يعشقون فكرتها".
طريق الشعب