رواتب مؤجلة.. وعدالة غائبة
بقلم : جاسم الحلفي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

لم يعد تأخير صرف رواتب منتسبي الدولة مجرد خلل إداري أو تقني، يمكن تجاوزه بالوعود أو بالحلول المؤقتة. فهو انعكاس صارخ لأزمة اقتصادية عميقة الجذور، تشهد على فشل هيكلي في إدارة الدولة لاقتصادها، الذي لا يزال أسيراً لاعتماد شبه كلي على النفط. فهذا الاعتماد الأحادي يجعل الدولة عاجزة عن توفير استدامة مالية مستقرة، ويدفع شرائح واسعة من المجتمع نحو حافة الانهيار المعيشي.

ولا يمكن فهم أزمة تأخير الرواتب بمعزل عن البنية الطبقية للمجتمع.  ومنتسبو الدولة، الذين يعتمدون على رواتبهم الشهرية في تغطية احتياجاتهم الأساسية، هم الضحية الأولى لهذا الإخفاق. بينما تستمر طغمة الحكم في تأمين امتيازاتها، حيث لا تنقطع رواتب المسؤولين، ولا تتأثر المخصصات الكبيرة التي تغذي مصالح المتنفذين. ولعل الأكثر فداحة هو استنزاف المال العام عبر شبكات الفساد، التي تحميها منظومة سياسية تفتقر إلى أدنى معايير الشفافية والمحاسبة.

وتظهر هذه الفجوة الطبقية المتسعة، بوضوح، كيف تستغل القوى المتنفذة أزمات البلد لمصلحتها، بينما يُترك ذوو الدخل المحدود يواجهون مصيرهم دون عون. وبين مطرقة تأخير الرواتب وسندان الغلاء المعيشي، تتسع دوائر الحرمان، ويتعمق التفاوت بين من يمتلك المليارات ومن ليس لديه للبقاء سوى جهده اليومي.

ان تأخير صرف الرواتب يُثقل كاهل العوائل التي تعتمد بشكل شبه كامل على هذه الرواتب. فالشريحة الأكثر هشاشة، التي تكافح لتوفير المأكل والملبس والمسكن، تجد نفسها مضطرة إلى الاستدانة أو تقليص نفقاتها الأساسية. وهذه الضغوط تخلق أزمة معيشية خانقة تؤدي إلى تفشي التوتر والقلق، اللذين يتركان آثاراً عميقة على الصحة النفسية للمواطنين.

كما أن غياب الاستقرار المالي يدفع بالعائلات إلى الوقوع في دوامة الاقتراض، مما يجعلها أسيرة لفوائد الديون، ويزيد من هشاشتها الاقتصادية. ومع استمرار تآكل القدرة الشرائية للعملة المحلية، تصبح خيارات هذه العائلات محدودة أمام متطلبات الحياة اليومية.

في مجتمع يعتمد غالبية سكانه على الوظائف الحكومية لتأمين مداخيلهم، يمثل تأخير صرف الرواتب تهديداً مباشراً للأمن الاجتماعي. فالضغط الاقتصادي يفاقم الإحباط واليأس لدى الطبقات الفقيرة والمتوسطة، ما يُعزز التوترات الاجتماعية ويهدد بزيادة الانقسامات الطبقية. وفي ظل غياب دعم حكومي جاد لتخفيف هذه الأعباء، تُترك الطبقات المسحوقة تواجه مصيرها وحيدة، مما يعكس فشل الدولة في دورها الأساسي كضامن للعدالة الاجتماعية.

ان أزمة الرواتب تشكل إدانة صارخة لنظام يفتقر إلى رؤية اقتصادية شاملة. والحل لا يكمن في سياسات ترقيعية أو معالجات مؤقتة، بل يتطلب إعادة بناء جذرية للنظام الاقتصادي، تستند إلى تنويع مصادر الدخل والاعتماد على الاقتصاد الحقيقي من صناعة وزراعة، بعيدًا عن وهم الريع النفطي.

وتبقى الرؤية التنموية العادلة هي الأساس لأي تغيير حقيقي. هذه الرؤية التي يجب أن تتبنى سياسات تحمي الفئات الأكثر هشاشة، وتضمن حقوقها الأساسية، وتعمل على تقليص الفجوة الطبقية، مع التركيز على دعم محدودي الدخل ومواجهة الفساد المستشري الذي ينهش عوائد الدولة.

ان تأخير صرف رواتب الموظفين ليس أزمة معيشية فحسب، بل هو امتحان أخلاقي وسياسي لنظام اقتصادي عاجز عن الوفاء بالتزاماته تجاه شعبه. وان الإصلاح الحقيقي يبدأ من إرادة سياسية تضع مصلحة المواطن فوق المصالح الفئوية، وتسعى إلى بناء اقتصاد متنوع ومستدام، يحفظ كرامة الإنسان ويؤسس لدولة العدالة الاجتماعية.

طريق الشعب

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 08-01-2025     عدد القراء :  42       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced