حين اندلعت الانتفاضات الشعبية في 2011، كان الذهول الأميركي بادياً.
ويمكن ملاحظة ذلك من خلال ارتباك الولايات المتحدة في التعامل مع الوضع التونسي ثم المصري، حيث سارعت الى الالتفاف على الانتفاضة من خلال "طرد الرئيس" عبر الجيش. في تونس نجحت، وفي مصر ارتبكت نتيجة "عناد" الرئيس المصري حينذاك محمد حسني مبارك.
ومن جانب آخر امتازت مواقف الولايات المتحدة بالازدواجية والتناقض، فمن ناحية كانت تدعي دعمها للحريات والديمقراطية وحقوق الانسان إلا أنها فى الواقع كانت تدعم حكومات ديكتاتورية كما هى الحال بالنسبة لمصر مبارك وتونس بن علي وغيرهما من الدول العربية.
وقد حاولت إدارة الرئيس الأسبق (جورج دبليو بوش) الضغط على بعض الأنظمة العربية من أجل إحداث "إصلاح ديمقراطى" بعد أن أعلنت هذه الإدارة " أن غياب الديمقراطية عن الشعوب العربية هو سبب تفريخ الإرهابيين"، وأكدت (كونداليزا رايس)، وزيرة الخارجية السابقة ومستشارة الأمن القومى، مرارا أن الولايات المتحدة كانت تختار دعم الاستبداد من أجل تحقيق الاستقرار إلا أنها لم تحصل عليه، لذا رأت إدارة بوش أن حصول مواطني البلدان العربية على الديمقراطية كفيل بحماية أمنها الوطنى. غير أن فوز "قوى إسلامية" فى انتخابات فلسطين (حركة حماس في قطاع غزة) ومصر ولبنان والعراق أدى لتراجع واشنطن عن المناداة بالديمقراطية بصيغتها "المعرّبة".
ولم تمثل إدارة أوباما أى استثناء عما سبقها غير أنها غلّفت موقفها بمزيد من الدبلوماسية العامة. فمن ناحية، أعلنت أنها تؤيد مطالب المنتفضين بالديمقراطية لكنها من ناحية ثانية لم تخاطر بعلاقاتها القوية مع نظم الحكم الاستبدادية فى المنطقة العربية. وبالملموس، اتبع أوباما بوضوح هذا النمط فى حالتى تونس ومصر، فرغم مطالب الكثيرين منه بأن يتخلى عن تحالفه مع النظام المصرى في عهد مبارك من أجل تحالف جديد مع الشعب المصرى، إلا أن إدارته انتظرت حتى تيقنت من رحيل مبارك، قبل أن تعلن "وقوفها مع مطالب الشعب المصرى"، والحال نفسه تكرر قبل ذلك مع نظام بن على في تونس.
غير أن اتساع نطاق الانتفاضات الشعبية وامتدادها لليمن والبحرين وسوريا وليبيا، أجبر واشنطن على ضرورة إعادة النظر فى موقفها، خاصة بعدما امتدت هذه الانتفاضات والاحتجاجات إلى دول حليفة مثل البحرين التى تحتضن الأسطول الخامس الأمريكى، واليمن باعتبار نظام على عبدالله صالح كان حليفا للولايات المتحدة فى "محاربة الإرهاب".
وعندما اندلعت الانتفاضات كان هناك صمت مريب من طرف الولايات المتحدة التي دعمت بكل قواها العديد من الانظمة الدكتاتورية والقمعية، حيال ما يجري. فقد بدت إدارة أوباما في تعاملها مع الاحداث مضطربة وغير مرتكزة على استراتيجية واضحة، كغيرها من القضايا الدولية الأخرى.
فمثلا في مصر، بيّن مسار الاحداث هناك إنه لم تكن عند أوباما استراتجية لمواجهة تطورات داخلية في بلد حليف محوري بالاقليم، حيث تخبط وجرى وراء الأحداث. ويشير بعض الباحثين الى ان أوباما لهث راكضاً وراء ثلاث سياسات متناقضة في سبعة عشر يوماً:
- بقاء الرئيس المصري محمد حسني مبارك مع إجراء تجميلات على النظام؛
- خلافة عمر سليمان (نائب الرئيس) لمبارك مع تنحي الأخير؛
- ثنائية العسكر و"الإخوان المسلمين".
ولهذا وعند تحليل ردّات الفعل والسياسات الأميركية وأولوية الأمن، لابد من التفريق بين "الأماكن الساخنة" وتلك التي تكون فيها المعارضات ضعيفة أو بدائية.
ففي منطقة النفط والقواعد الأميركية، ظل الهمّ الأول هو الحفاظ على الانظمة الريعية في دول الخليج وغيرها حيث جري التعامل مع أي حراك في هذه المنطقة باعتماد الوسائل العنيفة: دعم التدخل العسكري الخليجي في البحرين، والأطلسي في ليبيا. أما في اليمن، المشمول بالمنطقة النفطية وموقعه الاستراتيجي، فإن المبادرة الخليجية المدعومة أمريكياً، وقفت طويلا على الحدود بين تأمين تنحي الرئيس اليمني، حينذاك، علي عبد اللَّـه صالح ونجاح الدبلوماسية الأميركية في أن تؤدي دور الوسيط بين المعارضة متمثلة في أحزاب "اللقاء المشترك" وبين صالح، الأمر الذي تناقلته وسائل الإعلام بصراحة في نهاية آذار/ مارس 2011، مُظهِرة أن السفير الأميركي (جيرالد فايرستاين) استمر في لقاء قوى المعارضة في صنعاء ناشطاً في صوغ مطالب المعارضة الرسمية بشأن نقل الصلاحيات إلى نائب الرئيس، وذلك على حساب المطالب الجذرية للشباب الثائر.
أما في مصر، فقد جرت محاولة الالتفاف على خسارة محمد حسني مبارك بالاتكال على الجيش، وبفتح قنوات الحوار مع تنظيم "الإخوان المسلمين". وليس مستغرباً أن تكثر حينذاك الإشارات إلى استلهام "التجربة التركية"، ما دام "الإخوان" يثيرون الاهتمام الأميركي ليس فقط لأنهم يلبون مواصفات "الاعتدال"، بل لاعتمادهم نظاماً اقتصادياً يلتقي والنيوليبرالية في غير وجه أساسي، ولتوجهاتهم المحافِظة سياسياً واجتماعياً.
وأظهر الحَراك الاجتماعي والانتفاضات الشعبية حالة الانكفاء الامريكي النسبي، وفرضت تلك الانتفاضات على الولايات المتحدة – في ظل هذه الحالة – أن تعيد النظر في ادوات سياساتها الخارجية في الشرق الاوسط وتغير استراتيجيتها، على مستوى الشكل طبعا، مستخدمة أدوات "القوة الناعمة"، والتي تمظهرت في محاولة الإدارة الامريكية تجنب التصادم مع اتجاهات الرأي العام في البلدان العربية والتعاطي معه بايجابية، وخاصة فيما يتعلق بالتقاطعات مع "الحركات الاسلامية" التي أوصلتها صناديق الاقتراع الى الحكم في عدد من البلدان العربية، ومحاولة احتواء نتائج توسعها.
ومن جهة ثانية فإن التطور البطيء للانتفاضات الشعبية، وتوقفه في بعض البلدان، أو عدم توسعه في أخرى، سمح للولايات المتحدة بأن تعيد صياغة استراتيجيتها لتضمن بقاء بُنى النظم، على المستوى الاقتصادي وعلى صعيد الارتباط بسياساتها، دون أن تتجاهل "ضرورة تجديدها" كي تمتص جزءاً من الأزمة المجتمعية. بمعنى آخر كان مضمون الاستراتيجية الامريكية تجاه الانتفاضات الشعبية هو احتوائها من خلال الرهان على اجراء تغييرات في الانظمة القائمة وليس تغيير تلك الانظمة.
ظهر ذلك واضحاً في تونس من خلال التوافق مع الحكومة الجديدة حينها، وكذلك في مصر من خلال التوافق مع (المجلس العسكري) الذي تولى إعادة صياغة السلطة محاولا الحفاظ على جوهرها الطبقي وسياستها، ووضعها في "العلاقات الدولية".
على هذه الخلفية، يمكن تصنيف الإستراتيجية الأمريكية من الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية إلى عدة فئات:
الفئة الأولى: موجهة أساسا إلى مصر وتونس، حيث نجحت الانتفاضتان هناك بطرق سلمية، رغم وقوع بعض الضحايا، وتم تفكيك النظم الحاكمة، والبدء فى اتخاذ خطوات تجاه بناء دولة ومجتمع ومؤسسات ديمقراطية. ففى هذه الحالة حاولت الولايات المتحدة من جهة دعم بناء "الديمقراطية الناشئة" فيهما، ومن جهة المحافظة على نفوذها التقليدى هناك، إلا أن أهم ما ميّز أهداف واشنطن هو احتواء هذه النظم الوليدة، وعدم السماح بتغيير كبير فى السياسات، والاكتفاء بتغيير بعض رموز نظم الحكم، وهو ما تم فيما بعد. وعلى سبيل المثال، بعد ست سنوات من اسقاط محمد حسني مبارك ومن ثم اعتقاله عاد في أواخر مارس 2017 مطلق السراح بعد ان اسقطت عنه كل التهم وكأن شيئا لم يكن!!.
الفئة الثانية: موجهة لليبيا واليمن، إذ أقرت واشنطن فيهما بضرورة تغيير النظامين بعدما بدا لها "أن حاكمي الدولتين معمر القذافى وعلى عبد الله صالح قاما بعمليات عنف منظم وغير مبرر ضد شعبيهما"!!، وأن بقاءهما أصبح جزءا من المشكلة وليس جزءا من الحل؛ فتدخلت واشنطن عسكريا ضد القذافى وضغطت ونسقت مع بعض البلدان العربية من أجل تنحى علي عبدالله صالح. وبدلا من صعود القوى التي قامت بالانتفاضة في اليمن صعد الى السطح "الحوثيون".
الفئة الثالثة: دول كانت ولا تزال (واشنطن) تأمل فى الإبقاء على نظم الحكم فيها مع إدخال بعض "الإصلاحات الضرورية"، ومن هذه الدول: البحرين والمغرب والأردن، وركزت واشنطن فى حديثها مع النظم الحاكمة في هذه الدول على أهمية التعامل "بجدية" مع الإصلاحات، وتجنب نشوب صراعات ونزاعات داخلية حادة.
وبقيت سوريا. عمدت واشنطن الى التعامل مع الاحتجاجات الشعبية هناك على عدم المطالبة برحيل النظام فى المرحلة الأولى والاكتفاء فقط بـ "إدانة استخدام العنف"، و"التأكيد على حق السوريين فى التظاهر السلمى"، مع انتظار تبدل موازين القوى بين السلطة والمحتجين. وظهر التردد الكبير في الموقف من النظام السوري على اعتبار أن لا بديل واضحاً له من تأمين هدوء الجبهة الشمالية مع اسرائيل وضبط "حزب اللـه" في لبنان. بعد 18 آذار 2011 كان تعاطي الولايات المتحدة مع الأزمة السورية أقرب إلى اللاسياسة حيث حولت ادارتها الى "مقاولين ثانويين"، فقد تركت أنقرة ــ باريس ــ الدوحة تدير الملف، قبل أن توكله إلى العاصمة السعودية (الرياض) لكي تنوب عن الغرب الأميركي ــ الأوروبي والخليج. كما دعمت الدبلوماسية الأميركية الدور التركي في الأزمة السورية على أمل رعايته عبر تسوية "إصلاحية" بين النظام والتيار الإسلامي. غير أنه وعندما تعثر الدور التركي، إزاء شدّة الانتقادات التي وجهتها القيادة التركية إلى النظام السوري، تزايد إغراء الدور الأميركي المباشر أو عبر بعض الدول الخليجية أو "غضت النظر" عندما تدفقت القوى الاسلاموية المتطرفة من الخارج.
بعد عدة سنوات على اندلاع الانتفاضات الشعبية يمكن تلمس العنصر الأهم في الاستراتيجية الأمريكية تجاه الحراك والانتفاضات الشعبية التي شهدتها العديد من البلدان العربية والمتمثل في احتواء هذه الانتفاضات ومنع تجذرها وعدم السماح لها بالتطور لدرجة تصبح مهددة للمصالح الاستراتيجية الامريكية في المنطقة. والتكتيكات التي اتبعتها الادارة الامريكية خلال الفترة الماضية تدلل على ذلك.
فمثلا عندما بدأت "القصة" في تونس، لم تكن معالم التدخل الامريكي في الانتفاضات في البلدان العربية قد تبلورت بعد.
لكن ذلك الانطباع الأولي لم يلبث أن تغير مع مرور الوقت، وانكشاف رغبة الأميركيين، ومن ورائهم أوروبا، في تحجيم الانتفاضة هناك، وإبقائها عند حدود معينة.
وبمقابل ذلك وضمن توزيع للأدوار برز الدور الجديد المناط بتركيا كعضو في حلف شمال الأطلسي في المشروع الأميركي للشرق الأوسط. فقد بدا وكأنها تعمل كعرابة لـ "الإسلام السني" في مواجهة ما سمي بـ"التمدد الشيعي" القادم من إيران. ويظهر ان تركيا كانت ولا تزال وستبقى تروم إداء دور الحاضنة والدولة المرجعية لكل حراك سياسي "سُنّي"، خاصة "الأخوان المسلمين" في فلسطين (حماس/غزّة) ومصر وسوريا، وهو ما ظهر من خلال تبني الحكومة التركية لأخوان سوريا، ودعم (حماس) بالمعنى السياسي والمعنوي، ثم دعم نظام الاخوان المسلمين في مصر في عهد الرئيس محمد مرسي. وقد حرص الأتراك ومن خلفهم الولايات المتحدة على إظهار "الحكم الإسلامي" الذي حاول تحويل حكم الجيش إلى حكم مدني ليبرالي إسلامي المظهر؛ إلى "نموذج" يحتذى به في البلدان العربية، وعلى الثورات السياسية في البلدان العربية اقتفاء أثره!!.
المصدر: طريق الشعب