{جودة الحياة} مفهومًا بيئيًا ما بعد إنساني
بقلم : د. نادية هناوي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

تتغاير دلالات مفهوم "جودة الحياة"(Quality of life) تبعا لتطور أساليب التفكير الفلسفي وطبيعة أنماط العيش، لكن هذه الدلالات تشترك في الأعم الأغلب في معنى المقايسة في تقييم درجات الرخاء ومستويات التنعم والرفاه التي يعيشها الأفراد أو المجتمعات في مختلف مجالات الحياة، مما يعزز الشعور بالرضا والاطمئنان والسعادة على مختلف الصعد الجسدية والنفسية والعقلية والعاطفية والاجتماعية وغيرها.

وإذا كان تعريف مفهوم "جودة الحياة" يختلف باختلاف الفلسفات، فإن معايير قياسه تختلف أيضا بحسب مواقف الأفراد والجماعات. فمن المعايير ما يأخذ بنظر الاعتبار مستوى التنمية البشرية، ومنها ما يعطي للتقاليد الاجتماعية والثقافية مكانة خاصة. ويذهب إيفان أندراسكو في كتابه( جودة الحياة: مقدمة للمفهوم)  إلى أنَّ من غير الممكن فلسفة جودة الحياة من دون تحديد أساسيات الفهم والتفسير وقياس نوعية الحياة في تعدد أبعادها. ولأن مقايسة جودة الحياة فردية، تغدو عملية فلسفة الحياة أمرا ذاتيا يختلف بحسب الثقافات والمعتقدات والخبرات والتجارب وأنظمة العيش المتمثلة بالصحة والتربية والتعليم والرياضة والصناعة والبيئة. ولهذه الأخيرة أهميتها نظرًا لأثرها المباشر في الأنظمة الأخرى؛ فحياة الفرد والمجتمع في عصرنا الحالي مرتهنة بالبيئة بشكل طردي. مما يجعل لها أثرا مهما في تقييم جودة الحياة.  وقد يجعل هذا من التعالق بين البيئة والحياة معيارا لهذا التقييم، وهو ما يذهب إليه الفيلسوف الامريكي موراي بوكشين  الذي تأثر بفلسفة جون ديوي وبالنزعة ما بعد الإنسانية التي تقوم على فكرة الانتقال من هيمنة العقل إلى هيمنة النظام البيئي بعناصره الطبيعية وغير الطبيعية. وحدد بوكتشين موطن الداء الذي تعانيه البشرية اليوم في الأزمات البيئية. وبناء على ذلك طرح فكرة بناء مجتمع ايكولوجي كشكل مثالي للتنظيم الاجتماعي المراعي للطبيعة ومن خلال الاستناد إلى وعي بالأخلاقيات البيئية والتقنيات البديلة . ودعا في كتابه الموسوم( إعادة سحر الإنسانية: الدفاع عن روح البشرية ضد معاداة الإنسانية وكراهية البشر والبدائية) إلى بناء اقتصاديات خضراء، تستثمر البيئة استثمارا نافعا. وحدد مفهوم جودة الحياة في أنه يعني استعادة الفرد لإنسانيته من خلال نبذ المعاداة ورفض الكراهية والإيمان بالغيبيات . وبالمعايير الأخلاقية لجودة الحياة، يصبح الإنسان إنسانا Becoming Human  أما أكثر تلك المعايير أهمية -بحسب بوكشين- فهي التحلي بالطيبة والبعد عن الشيطنة والتخلص من أية درجة من درجات الخنوع سواء للقوى السياسية والاقتصادية المهيمنة أو للمشعوذين النفسيين مع ضرورة التصرف بعقلانية. ولا يعني ذلك الابتعاد عن الخيال في تشكيل الوعي الذي تشتد حاجة البشر إليه كلما ازدادت الأجواء المعادية للإنسانية في عصرنا. ويرى بوكشين أن من النادر أن نتصور أن التحلي بالمعايير الإنسانية يقتضي الرجوع إلى الميتافيزيقيا والفلسفة الهيدجرية، مؤكدا ضرورة أن يكون للبعد الميتافزيقي حضور في حياة الإنسان كي يشعر أنه جزء من هذا الكون، وأن له قدراته على الابتكار وفاعلياته في التغيير من أجل عالم أحسن.

ولا يتنافى هذا الشعور الميتافيزيقي مع فكرة حيوانية الإنسان سواء في شكلها الجينالوجي أو عدم تمايز طبيعتها ولا قابليتها على التحديد، وليس في هذا شعور بالبدائية وفقدان العقلانية. ذلك أن ما تعرضت له البيئة من تدهور هو من جراء ما وصل إليه الإنسان من تطور اجتماعي، جعله ذا ميول معادية للإنسانية. ومن ثم يكون من المهم تحمُّل البشر مسؤولياتهم في تحسين سبل العيش وجودة الحياة، وسيكون ذلك إنجازا حقيقيا به تتشكل إنسانيتهم من جديد . ولا يقوم مفهوم جودة الحياة على وضع المقاييس حسب، بل أيضا على تحديد مناهج الدراسة وطرائقها في التقييم والإحصاء. ومن تلك المناهج المنهج الذاتي، ووظيفته قياس الرفاهية الذاتية وتقييم ردود أفعال الفرد المعرفية والعاطفية وسمات شعوره بالسعادة التي أملتها الأفكار المعيارية القائمة على الأنظمة الدينية أو الفلسفية أو غيرها. وإذا كان المنهج النفسي يبحث في ما يُرضي الأفراد بحسب تجاربهم الشخصية، فإنَّ المنهج الموضوعي يقيس رفاهية المجتمع العامة في مجالات الحياة الذاتية والموضوعية والعلاقات بين الأفراد والجماعات كما يركِّز على قياس المؤشرات الاجتماعية التي تعكس الظروف الفعلية لحياة الناس داخل وحدة ثقافية أو جغرافية معينة من قبيل قياس معدل الجريمة أو البطالة أو إحصاء عدد المرضى والأطباء وما إلى ذلك.

أما المنهج البيئي في تقييم جودة الحياة فيركِّز على ما تتمتع به الطبيعة الحية وغير الحية من حقوق بيئية. ومن دعاة هذا المنهج كريستوفر ستون بدراسته المهمة( هل يجب أن يكون للأشجار موقف؟ ) وجوابه نعم، فالذي يقطع شجرة لا يتحمل التبعات القانونية حسب، بل أيضا التبعات النفسية والاجتماعية والنفسية التي كان قد سببَّها للشجرة. ومثل ذلك الذي يلوث المياه أو يتسبب في جرف التربة أو يزيل الغابات أو يلحق أذى بالحيوان. ويذهب المفكرون البيئيون نحو وضع مناهج واستراتيجيات مناسبة وبدائل خاصة لصنع أوضاع بيئية مستقبلية ينتفع منها الإنسان مثلما تنتفع منها الأنواع الحية الأخرى.

وتتجاوز هذه التشاركية الأفكار الطوباوية المبنية على خلفيات تقويمية وأبعاد تربوية ومنازع أخلاقية إلى بناء منطلقات فلسفية لمفهوم "جودة الحياة" بوصفه موضوعا أثيرا، اختلف المفكرون في تقدير أبعاده، تبعا لطبيعة ما ينتمون إليه من مدارس وما يتبنونه من اتجاهات. ومن خلال هذه التصورات الفلسفية تُبنى برامج العمل من أجل تجويد الحياة وبما يضمن للبشر عيشا مشتركا ومصالح متبادلة، يتساوى فيها الشرط الإنساني في إثبات الوجود وتحقيق الخير وتأكيد فاعلية مساهمة الكائنات الحية جميعها في الإدامة البيئية وتحسين جودة الحياة .

وبهذا يكون مفهوم جودة الحياة غير مرهون بمجال بيئي معين ذي بعد أحادي، بل هو متعدد الأبعاد ومعقد، لأن الحياة نفسها معقدة ومتطورة باستمرار. ومن ثم لا يكون معقولا أن يتوافق تقييم جودة الحياة في بيئة ما مع بيئات أخر. وترى الباحثة سابينا ألكاير  أن عوامل قياس "جودة الحياة" تتضمن أبعادًا ذات أهمية خاصة للمجتمع والأفراد، وتختلف طرائق قياس هذه الأبعاد غير أن أغلب الباحثين والمحللين يميلون إلى اعتماد طريقة واحدة في القياس، منها الطريقة الجماعية باختيار عينات تمثيلية مناسبة، وتكون عملية القياس، في كثير من الأحيان، مدفوعة بعوامل الصراع أو عدم المساواة أو المعلومات المضللة، أو غياب مجموعات معينة. وهناك طريقة ثانية تتمثل في استعمال القائمة وتحظى بقبول واسع النطاق بسبب ما فيها من مراعاة لحقوق الإنسان. وتعتمد بعض أطر التخطيط الوطني. وهذا مفيد بشكل خاص عندما تكون الفئات واسعة أو عندما يتعين اختيار الأبعاد بسرعة، دون إمكانية التشاور. ويعتمد اختيار العينة على حدس الباحث في ما هو شائع وله صلة بالمجتمع ويتوافق مع القوائم/ العينات التي تم إنشاؤها سابقا. وثمة طريقة ثالثة تتمثل في الاختبار على أساس توافر البيانات على وفق معيار الجدوى، وعادة ما تكون هذه الطريقة ناجعة وضرورية حين يتم استعمالها مع واحدة من الطريقتين السابقتين. أما الطريقة الرابعة فيندر استعمالها، وتقوم على إنشاء قائمة تعتمد على المعلومات التجريبية المتعلقة بسلوكيات الأفراد وتفضيلاتهم المستمدة من أبحاث علم النفس النظرية والميدانية.

ويرى الباحثان الفيتناميان نجان وخوي  أن مقارنة القوائم التي تم إنشاؤها بواسطة الطرائق السابقة وغيرها، سيكشف عن وجود قواسم مشتركة فيما بينها. ويساعد اعتماد هذا النهج المقارن في تحديد الأبعاد والمهام التي من خلالها تقاس جودة الحياة. وهو أمر مهم يندرج في إطار التنمية البشرية وانطلاقا من مقولة( إن الإنسان هو مركز التنمية وهو هدف الدينامية التنموية). ويشير هذان الباحثان أيضا إلى أن الإستراتيجية التنموية في تحسين الحياة وتجويدها تركِّز على التنمية الاقتصادية وتطوير المجالات الثقافية والاجتماعية ونظام الرعاية الطبية والخدمات الصحية وتطوير التعليم والتدريب وتحسين الموارد البشرية وحماية البيئة، والتعامل بنشاط وفعالية مع التغيرات المناخية، وما إلى ذلك من مجالات تضمن التنفيذ العملي للاستراتيجية التنموية. ونقل الباحثان عن ألفا كرونباخ تصميمها مقياسا لتقييم جودة الحياة، يقوم صدق وثباته على العامل الاقتصادي باستعمال نموذج AIC وقد طبقته كرونباخ على نحو 268 مشاركًا يعيشون في مدينة من مدن فيتنام.

ومما يراه الباحثان أيضا أن تحسين "جودة الحياة" ينبغي أن يشتمل على مجمل تجارب الحياة ويتضمن كل بعد من أبعادها كي نتمكن من قياس كل ما فيها من عوامل موضوعية وذاتية، بغية تنفيذ الأهداف الإنمائية للألفية الحالية من ناحية مكافحة الفقر ومعالجة تغير المناخ والمساواة بين الجنسين في التعليم والصحة والاستدامة البيئية. هذا إلى جانب عوامل أخرى لها دور مهم في حياة الناس وتعزز التنمية مثل الدين والثقافة والترفيه والعلاقات الأسرية والفلسفة. وكل ما من شأنه أن يُظهر العلاقات الاجتماعية بمظهر منظم ومنضبط يراعي القوانين والأنظمة، ويتجه صوب الإفادة العامة المجتمعية مع عدم الإضرار بالمصالح الفردية والجماعية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فهرس الإحالات:

Anadarsko, Ivan, Quality of Life:

An Introduction to the Concept, Masaryk university press, 2015.

من كتبه ( لا سلطوية ما بعد الندرة

post scarcity anarchism) 1972) وكتاب نحو مجتمع ايكولوجي

towards an Ecology of society) 1980).

Bookchin ,Murray, Re- Enchantuing

Humanity: A Defense of the Human, Spirit Against Ant humanism, Misanthropy,

Mysticism, and Primitivism, Cassall, New York, 1995, p 33.

Bookchin, Murray, Re-Enchanting

Humanity, p30.

Bookchin, Murray, Re-Enchanting

Humanity, p 33.

Stone, Christopher, "Should Trees Have Standing ? Toward legal rights for nature objects", environment legal rights ,Southern California ,1972, 450-501.

Alkire ,Sabina,The capability Approach to the Quality of Life, University of Oxford,  2008.

Nguyen, Thi Ngan and Bui Huy Khoi,"

Factors Influencing on Quality of Life:

Model Selection AIC" International Journal of Psychosocial Rehabilitation, Vol. 24,Issue 02, 2020.

المصدر:  الطریق الثقافي

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 28-01-2025     عدد القراء :  39       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced