لعل من بين الصفحات الغنية لحياة إليانور ماركس، الإبنة الصغرى لماركس، تلك المتعلقة بشغفها بالأدب وجمالياته. وفي الذكرى الـ 170 لميلادها (ولدت في لندن يوم 16 كانون الثاني 1855) نحاول إضاءة جوانب من هذا الشغف الذي ارتبط بانجازات هامة، فأضاف لحياة إليانور ماركس، القائدة الاشتراكية، والنسوية البارزة، والأممية المتقدة، والخطيبة الجذابة، والمترجمة من والى لغات عدة، عمقا آخر جعل من هذه الحياة أمثولة ملهمة لأجيال الثوريين والنساء المكافحات من أجل الحرية.
نشأت إليانور في مناخ ثقافي تنويري نادر، ومنذ طفولتها كانت تحت رعاية أبيها ماركس، وأمها جيني ويستفالن، ناهيكم عن "عمها" إنجلز، والكثير الآخرين من القادة الاشتراكيين والكتاب البارزين في القرن التاسع عشر، ممن عملت معهم في ميادين الفكر والكفاح المختلفة، سواء في الأممية الثانية أو في منظمات أخرى، وبينهم روزا لوكسمبورغ، وكلارا زيتكين، وأوليف شراينر، وويليام موريس، وجورج برنارد شو، والكثير من قادة ومفكري الحركة الاشتراكية.
نحتفي بهذه المناسبة الثورية والثقافية الجليلة عبر الكشف عن بعض الأسئلة الجمالية التي أضاءتها، وعشقها لشكسبير وإبسن وفلوبير.
داعية إبسنية
ظل سؤال علاقة إبسن بالنسوية سؤالاً مثيراً للجدل. فالرأي الذي يدعم إبسن كنصير للاتجاهات النسوية يمكن أن يُنظر إليه متجلياً على امتداد طيف واسع من المواقف مع إبسن كاشتراكي بمعنى ما في طرف، وإبسن كإنساني في الطرف الآخر. وقد يشير المدافعون عن الموقف الأول الى أداء هواة لمسرحية (بيت الدمية) عام 1886 في غرفة للضيوف بشقة في منطقة بلومزبري بلندن، حيث كان جميع المشاركين لا من المرتبطين بالقضية النسوية حسب، وإنما كانت لهم أو ستكون انجازات في الحركة الاشتراكية البريطانية.
وكتبت إليانور ماركس، إبنة ماركس الصغرى، التي تعلمت النرويجية لتتمكن من ترجمة مسرحيات إبسن، الى هافيلوك إيليس، الطبيب وعالم النفس البريطاني والشخصية الفابية الشهيرة، في أواخر كانون الأول 1885 تقول "أشعر أنه يجب علي القيام بشيء لجعل الناس يفهمون إبسننا بطريقة أوسع مما يفعلون". ولهذا وجهَت دعوات الى "عدد قليل من الناس الجديرين بمشاهدة عرض قراءة نورا". وفي يوم 15 كانون الثاني عام 1886، وفي شقتهما في غريت رسل ستريت بلندن، استضافت إليانور ماركس وشريكها إدوارد أفلنغ واحداً من العروض (القراءات) الأولى في انجلترا لمسرحية إبسن (بيت الدمية). وأدت إليانور دور نورا بينما أدى أفلنغ دور هيلمر. وكان برنارد شو واحداً من أهم المدعوين، وقد لعب دور كروغستاد أمام المسز ليندي، التي لعبت دورها ماي، إبنة ويليام موريس، الكاتب والاشتراكي البريطاني البارز. وتحولت الأمسية الى أمسية تبشر بـ "الابسنية"، ونقطة التقاء بين الماركسية والاشتراكية والفابية.
وفي 21 تشرين الثاني 1884 كانت هناك "أمسية فنية" للموسيقى والقراءة والدراما في نيوميير هول بهدف جمع التبرعات لاتحاد المنظمات الاشتراكية الديمقراطية. وافتتح البرنامج بعزف ثنائي على البيانو لمندلسون أداه برنارد شو وكاثلين إينا. وقرأ أفلنغ قصيدة شيلي (رجال انجلترا). وكانت هناك فقرات وصفتها المربية هيلين ديموث، التي كانت هناك، لفرديريك إنجلز، الذي لم يتسنَ له حضور الأمسية.
وفي 30 كانون الثاني 1885 ظهر برنارد شو مرة أخرى مع إليانور وأفلنغ في أمسية مسرحية موسيقية أقامتها "المنظمة الاشتراكية" في لادبروك هول بحي نوتنغ هيل.
وتجدر الاشارة الى أن إليانور ماركس كتبت في أيام الاحتفال بعيد العمال العالمي عام 1891 الى صديقتها كارولين رادفورد تشكرها على مجموعتها الشعرية الأولى التي قالت عنها إنها "ستظل على الدوام شيئاً ثميناً". ثم أشارت الى إليزابيث روبنز، الممثلة والروائية الأميركية المعروفة، باعتبارها "رائعة ببساطة" في مسرحية إبسن المذهلة (هيدا غابلر) قائلة "إننا نجد فيها فنانة عظيمة حقاً". وهي فكرة حملها كثيرون ممن حضروا العرض الافتتاحي، وكان بينهم هنري جيمس وتوماس هاردي وجورج مريديث وبرنارد شو، فضلاً عن جون بيرنز رئيس اتحاد عمال الغاز، وجمهور واسع ومثقف من الاشتراكيين والفابيين وسواهم.
وكانت إليانور ماركس تنشر التعاليم الإبسنية خارج حدود بلومزبري الى مناطق الطبقة العاملة في لندن ووسط انجلترا. وكان برنارد شو يعدّ محاضرته الفابية الهامة حول إبسن عام 1890 (التي أعيد النظر فيها لتتحول الى موضوع بعنوان "جوهر الإبسنية" بعد عام من ذلك). وكان إبسني ثالث مشغولاً بحملته النشطة، المثيرة للجدل، المؤيدة لإبسن، وهو ويليام آرتشر، المترجم ومراجع الكتب والمخرج.
ويهمنا هنا أن نشير، بايجاز، من بين هذه الأشكال الثلاثة من الإبسنية المبكرة باعتبارها تمثل المواقف النقدية منذ سبعينات القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى، الى موقف إليانور ماركس.
فقد عرفت إليانور، على أفضل نحو، باعتبارها واحدة من المترجمين الأوائل لمسرحيات إبسن (عدو الشعب، وحورية البحر). ولكن أهميتها بالنسبة لتاريخ النقد هي، نوعاً ما، أهمية نصيرة لمسرح إبسن خلال ثمانينات القرن التاسع عشر، عندما كان الحماس الروحي للاشتراكية البريطانية يسمع صدى آيديولوجيتها في مسرح الطليعة الأوروبي. ومن الجلي أن (بيت الدمية) قدمت دليلاً معززاً لمواقفها السياسية.
تراجيديا إيما بوفاري
في عام 1886 أكملت إليانور ماركس الترجمة الانجليزية الأولى لرواية الفرنسي غوستاف فلوبير (مدام بوفاري)، التي ظلت معتمدة حتى خمسينيات القرن العشرين. وكتبت مقدمة هامة للرواية المترجمة، ذات طابع تحليلي ونقدي. واعتمدت المقدمة على مقارنة فلوبير مع شكسبير، مضيئة ذلك التنوع الهائل للحصيلة الابداعية للكاتبين العظيمين، وسعيهما الجمالي من أجل تحقيق "الكمال المثالي" للفنان الحقيقي. ويبدو أن تقييمها لفلوبير يتحدد، أساسا، بتقديره لشكسبير. وقد استشهدت برسالة عام 1875 الى جورج صاند، كما أوردت الباحثة البريطانية غيل مارشال: "لا أقرأ شيئا باستثناء شكسبير مما يمكن أن أعيد قراءته. إنه يعزز قوتي وينعشني، كما لو أن المرء يقف على جبل عالٍ. وكل ما عدا ذلك يبدو عاديا الى جانب هذا الشخص الهائل".
ويجري تفصيل فهم إليانور للطبيعة الدقيقة لهذه السمة المفعمة بالحياة لاحقا عندما تقيّم طبيعة واقع إيما بوفاري. فإيما واقعية ليس لأنها تعتمد على امرأة واقعية، وإنما هي واقعية كما هو هاملت واقعي. وترى إليانور أن تراجيديا إيما هي تراجيديا شخصيات شكسبير، الذين يتصرفون كما يفعلون لأنه يتعين عليهم ذلك. وتشير، في تقييمها لإيما بوفاري، الى أن هذه المرأة القوية تشعر بأنه يجب أن يكون لديها موقع في العالم، ويجب أن يكون لديها ما تفعله وهي تحلم. فقد كانت الحياة غير منصفة معها بحيث أنها تزوجت شارل بوفاري متوهمة أنها تحبه. ولا ترى إليانور ما هو أكثر حزنا وإثارة للشفقة من سعي إيما اليائس لكي تجعل نفسها واقعة في الحب. وهكذا فان إيما بوفاري تبحث عن مثال. إن لديها فكرا وليس مجرد حساسية، وإنه لمن سخرية القدر أن تعاقَب على فضائلها مثلما تعاقَب على شرورها.
وعلى الرغم من بعض الملاحظات السلبية على ترجمة إليانور ماركس للرواية، وبينها ملاحظات فلاديمير نوبوكوف، فان الكاتب البريطاني ويليام شارب كان من بين النقاد الذين أشاروا الى أن ما قامت به إليانور كان عملا يستحق الثقة. وقد ذكّر شارب القراء بأن فلوبير كان كاتبا تصعب ترجمته الى حد كبير، وأثنى على إليانور لقيامها بترجمة اعتبرها أمينة وطبيعية جدا.
ولا ريب أن دافع إليانور لترجمة (مدام بوفاري)، التي تعتبر من الأعمال الرائدة في الرواية الواقعية، يرتبط بتوافقها مع فكرها وتراثها وكفاحها من أجل المثل الاشتراكية وقضية النساء. فهذه الرواية، التي تدرس، بعمق، شخصية امرأة محبطة تبحث عن الحب ومعنى الحياة في عالم لا يفهمها ولا يقدر مشاعرها، هي نقد لاذع للبرجوازية والبطرياركية واضطهاد النساء. فقد كان فلوبير ناقدا لقيم الطبقة الوسطى التي جاء منها، وهو ما يذكّرنا بموقف بلزاك. ومعروف ما قاله فلوبير من أن "مدام بوفاري هي أنا"، وهو ما يعبر عن معرفته برغبات طبقته الوسطى عبر بنائه التراجيدي لشخصية إيما بوفاري. ومن المؤكد أن هذا كله كان في ذهن إليانور ماركس عندما أقدمت على ترجمة هذه الرواية الواقعية العظيمة التي أثارت الكثير من الجدل.
شكسبير .. إنجيل بيتنا
كانت حياة إليانور ماركس مثالا على عمق ارتباط عائلة ماركس بشكسبير، وكانت مساهمتها في عبادة العائلة لشكسبير مبكرة النضوج. وفي سيرته عن ماركس يكتب آيزايا برلين بأن إعجاب ماركس بشكسبير لا حدود له، وكانت الأسرة بكاملها قد نشأت عليه، حيث كان يُقرأ بصوت عال، ويمثَّل ويناقَش باستمرار. وكانت إليانور تحفظ فقرات كاملة من مسرحيات شكسبير في عمر الرابعة. وتكتب إليانور الى كارل كاوتسكي بعد أربعين عاما (في كانون الثاني 1898) عن تلك الفترة من حياتها وعن دور شكسبير فيها. وتقول إن أعماله كانت "إنجيل بيتنا، نادرا ما يكون بعيدا عن أيادينا أو أفواهنا"، وإن "مشاهدها المفضلة كانت مناجاة ريتشارد الثالث لنفسه ... والمشهد بين هاملت وأمه.
وفي سيرته عن ماركس يتحث فرانسيس وين عن شكسبير في عائلة ماركس. ويقول إن "ماركس أخبر إنجلز بفخر أبوي كبير عام 1856 قائلا إن "الأطفال يقرأون شكسبير باستمرار. وفي سن الثانية عشرة قارنت جيني، إبنة ماركس، سكرتيره السابق ويلهيلم بيبر مع شخصية بنديك في مسرحية (جعجعة بلا طحن)، في حين أن شقيقتها لورا، البالغة إحدى عشرة سنة، أشارت الى ان بنديك كان موهوبا ولكن بيبر كان مجرد مهرج، ومهرج رخيص".
وكان المعلم الأول للصبي ماركس هو صديق والده، البارون لودفيغ فون ويستفالن، الذي عَرّف ماركس على الشعر والموسيقى (وعلى ابنته جيني التي أصبحت زوجة ماركس بعد ذلك). وخلال تجوالهما الطويل معاً، كان البارون يردد فقرات من هومر وشكسبير حفظها الفتى عن ظهر قلب واستخدمها بعد ذلك كتوابل أساسية في أعماله. وعندما أصبح ماركس رجلاً كان يستعيد هذه الرحلات السعيدة مع فون ويستفالن، عبر قص مشاهد من شكسبير ودانتي وغوته، عندما كان يقود عائلته صعوداً إلى هامبستيد هيث بلندن في رحلات الآحاد.
وكانت جيني ويستفالن قد كتبت عددا من المقالات حول شكسبير ومسرح لندن لصحيفة (فرانكفورتر زايتونغ) في سبعينيات القرن التاسع عشر. ووفقا لها فقد كانت غرفة إبنتها جيني "نوعا من مسرح شكسبير".
وكانت العائلة من الداعمين لهنري إيرفنغ، الممثل المسرحي الانجليزي، الذي اجتذبهم بتفسيراته الجديدة لأدوار شكسبير، مثل دور هاملت عام 1874، وقد انطوى على نوع من إثارة الجدل. وفي هذا السياق كتبت جيني ويستفالن مقالة دافعت فيها عن إيرفنغ، وقامت إليانور بتقديم مقالة أمها للنشر في (فرانكفورتر زايتونغ).
واستمرت إليانور على أن تكون عضوا في (نادي دوغبري)، الذي ساهمت في تاسيسه، وهو مجموعة قراءة شكسبير، كما انضمت الى (جمعية شكسبير الجديدة)، التي تأسست عام 1874، وكانت تلتقي اسبوعيا في الكلية الجامعة بلندن، وتلقت دروسا حول شكسبير في معهد هايغيت الأدبي، وقامت بمراجعات نقدية لمسرحياته. وقد أشير الى أنها أصبحت عضوا في الجمعية في 12 أيار 1876. وبعد أشهر عدة تطوعت لترجمة بحث طويل حول "استخدام شكسبير للسرد في مسرحياته" من الألمانية للباحث نيكولاس ديليوس، وقد أثنت الجمعية على عملها.
تميزت إليانور ماركس بنشاطاتها واعمالها الطوعية. ومن بين إنجازاتها الكثيرة المميزة في هذا السياق أنها افتتحت دورة لتدريس مسرحية شكسبير (كما تحب). وكان طلابها من العمال ومن النساء من طبقات مختلفة، ممن حرموا من التعليم بسبب الجندر أو الطبقة أو العرق. وقامت الاتحادات النقابية والمنظمات التقدمية بدعم الطلاب الذين لم تكن لديهم القدرة على دفع رسوم الدراسة في هذه الدورة التي تضمنت 12 درسا حول هذه المسرحية. وبدأت إليانور بتدريس مجموعة قراءة المسرحية، فضلا عن تعليم الطلاب تقديم مشاهد مسرحية. وكانت طريقتها في التدريس جذابة، وقد ارتبطت بقراءات شكسبير في عائلتها، وفي نادي دوغبري.
وكرست إليانور أوقاتا مديدة للعمل الطوعي لتعليم القادة الشباب في الحركة الاشتراكية والعمالية ممن كانت معارفهم محدودة بسبب حرمانهم من فرص التعليم، وهي إحدى الحقوق التي كانوا يكافحون من أجل نيلها. وقدمت ذكريات العديد من كوادر الطبقة العاملة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين شهادات مؤثرة على الجهد الذي بذلته إليانور في تعليمهم القراءة والكتابة والمحاسبة والنظرية السياسية والاقتصادية، وكذلك كيفية كتابة الخطابات وإلقائها.
لقد أكد ماركس الآصرة بين الحياة العامة والأداء والمسرح والسياسة في (الثامن عشر من برومير لويس بونابرت)، وهو أحد أعماله الباهرة حول انقلاب لويس نابليون بونابرت. ومرة أخرى تجسد العلاقة العميقة بين الأب الفيلسوف والإبنة السياسية نفسها، على نحو واضح، كما تشير راشيل هولمز، كاتبة سيرة إليانور: "كارل ماركس كان النظرية، وإليانور ماركس كانت التطبيق".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"الطريق الثقافي" – العدد 157 – 29 كانون الثاني 2025