بانهيار الثنائية القطبية شهد النظام الدولي جملة من التحولات على الصعيد الهيكلي والقيمي، مما جعل بعض المفكرين يتحدثون عن القطيعة مع الأطر النظرية والمفاهيم القديمة. وهكذا شاعت آنذاك مفاهيم تتحدث عن "نهاية التاريخ" و"نهاية الآيديولوجيا"، وحتى "موت الدولة/الأمة". ويمكن هنا قراءة ثلاثة تحولات رئيسية بعد "الحرب الباردة" هي:
أولا - على المستوى الإستراتيجي: ظهور عالم بدون معالم ثابتة، حيث أعيد طرح مسألة الحدود التي هي في الغالب ترتيبات ما بين الحربين العالميتين (نظام فرساي، ويمثل المعاهدة التي أسدلت الستار بصورة رسمية على وقائع الحرب العالمية الأولى).
ثانيا - على المستوى الاقتصادي: سمحت العولمة بصيغتها الرأسمالية المنفلتة ببروز عالم بدون حدود، حيث برز اتجاه قوي في العلاقات الدولية يتجاوز الدولة، ويطرح مفهوم الدولة/الأمة للنقاش (نظام وستفاليا، والذي تضمن أول اتفاق دبلوماسي في العصور الحديثة).
ثالثا - على المستوى الإيديولوجي: انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك النظام الاشتراكي خلق عالم بدون عدو واضح، والعمل على خلق عدو جديد يلعب نفس الدور في السابق، التناقض شرق- غرب (نظام يالطا).
وقد عرفت هذه المرحلة بـ "مرحلة ما بعد الحرب الباردة" وقد وجدت الولايات المتحدة نفسها في وضع دولي جديد وبيئة استراتيجية جديدة. وهكذا فإنه وعندما شارفت "الحرب الباردة" على نهايتها، أصبح واضحا لدى الجميع أن البيئة الجيوسياسية قد دخلت في مرحلة تحولات بنيوية عميقة وواسعة، وأن البناءات الجيوستراتيجية التي أقيمت في (يالطا) بعد الحرب العلمية الثانية آيلة إلى السقوط، لأنها لا تستطيع الإستمرار وسط بيئة لم َتعد تشبه كثيرا ما كانت عليه من تراسيم تغيرت ملامحها بشكل جوهري.
أحدثت نهاية نظام يالطا تحولات كبيرة في القارة الأوربية، كانت لها أثاراً عميقة على هذا الفضاء الجيوسياسي المتميز.
هذه التحولات أثارت من جديد تساؤلات حول إعادة تشكيل الهندسة الأمنية في أوربا ما بعد "الحرب الباردة"، وخصوصا ما تعّلق برؤية ومكانة ودور الولايات المتحدة في هذه العملية.
وبالملموس فإن هذا الوضع الجيوسياسي المجمد وهذا الاستقرار الإستراتيجي المبني على توازن الرعب، إنتهى بشكل دراماتيكي: تفكّك حلف وارشو – في الاول من تموز 1991– وانهيار الاتحاد السوفيتي في كانون الاول/ديسمبر من نفس العام، لينتهي معه نظام "السلام المستحيل والحرب غير المحتملة"، حسب ريمون ارون.
وقد اقتضت ضرورات البيئة الاستراتيجية الجديدة من الولايات المتحدة إعادة فحص للاستراتيجيات الموروثة عن "الحرب الباردة" التي كانت إستراتيجيتا "الردع –الاحتواء Deterrence and containment" حجر الزاوية فيها والتحول إلى بناء استراتيجية جديدة بإمكانها استيعاب التحولات الجديدة، ومتغيرات "النظام الدولي الجديد".
وتأسيسا على ذلك، فانه يمكن توصيف الإستراتيجية الأمريكية الجديدة من خلال إجلاء الزوايا الأربع التالية:
أ. من زاوية التحليل الجيواستراتيجي، انصب الاهتمام الأمريكي على منع ظهور أقطاب أو تحالفات لقوى تكون منافسة للولايات المتحدة الأمريكية. في هذا السياق يبدو التفكير الاستراتيجي الأمريكي وكأنه يعيد إنتاج أجواء "الحرب الباردة" لاحتواء القوى المنافسة، أو إعادة بعث لنظرية الاحتواء containment إلى مجال أرحب يرتبط بالاحتواء الشامل للقوى الصاعدة في العالم.
ب. من زاوية التحليل الجيوسياسي، ستشكل قارة آسيا بحكم ديناميكية التطور السريع والثقل الاقتصادي والسكاني والعسكري الذي تتبوئه على الساحة العالمية، فضلا عن اشتمالها على قوى إقليمية متحفزة استراتيجيا وانطوائها على محاور جيوبوليتيكية مهمة، ستشكل قيدا على الحراك السياسي للولايات المتحدة. وعليه فإن هذه الأخيرة، ستسعى إلى بناء ترتيبات إستراتيجية جديدة تَحُدُّ من ديناميات التفاعل الداخلي في آسيا وتمنعها من تهديد المصالح الأمريكية، في صورة تحالفات أوراسية Alliances Eurasian، تفضي إلى تعددية قطبية غير متوازنة.
ج. من زاوية إعادة تعريف "المصلحة الوطنية"، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى أن تأخذ خريطة المصالح الأمريكية وضعا شبكيا ذو امتدادات عالمية يؤشر عليها بالمناطق الحيوية Vital Area للمصالح الاستراتيجية الأمريكية في العالم.
د. من زاوية التفاعل الارتباطي بين الجيو/سياسي والجيو/اقتصادي، سعت الولايات المتحدة إلى استكمال أدوات السيطرة العسكرية على مراكز إنتاج الطاقة في العالم والتحكم في المفاصل الجغرافية لنقل الطاقة، بدءا من الشرق الأوسط وصولا إلى نفط آسيا الوسطى وغازها، وبهذا تستطيع التحكم في السياسة العالمية عبر الهيمنة الاقتصادية .
فبعد نهاية "الحرب الباردة" التي عرفت مجيء ثلاثة رؤساء هم على التوالي: الرئيس الجمهوري جورج بوش George Bush (1989 – 1993)، ثم الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون Bill Clinton (1993 – 2001)، ثم جورج دبليو بوش (بوش الابن) G.W Bush (2001-2009)، ثم عودة الديمقراطيين مع باراك أوباما(2009-2017) B.Obama ، وجدت الولايات المتحدة نفسها في عالم بدون حدود ولا معالم ولا "عدو". وهذا كله دفع الإدارات المتعاقبة المشار اليها أعلاه، الى البحث عن دور للولايات المتحدة في "عالم ما بعد الحرب الباردة".
وفي ما يخص الولايات المتحدة الامريكية فإن أكثر ما يلفت النظر هو الجانب الجيوسياسي، فانتهاء حقبة الصراع الآيديولوجي بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي دفع الولايات المتحدة إلى إعادة التفكير في كيفية تشكيل إستراتيجيتها ومذهبها العسكري بما يتلاءم والوضع الجديد وأهدافها ومصالحها كذلك.
ويمكن تحديد أهم التحولات في هذا الجانب كما يلي:
- تحول بنية النظام الدولي من جهة، وإعادة ترتيب مراكز القوى وفقا للبيئة الدولية الجديدة. فكما هو معروف، شهد العالم بعد تفكك الإتحاد السوفييتي قدوم حقبة "الأحادية القطبية" الذي تمثلها الولايات المتحدة في مختلف الجوانب، المتوجة بانتصار الرأسمالية وما كانت تدعو إليه أمريكا من "قيم ومبادئ" خلال فترة الحرب الباردة، وكذا ميل الولايات المتحدة إلى تقلد مسؤوليات القيادة في سياستها الخارجية.
- أولوية القوة العسكرية في السياسة الخارجية. فرغم الدعوة المتزايدة لبروز المتغيرات الثقافية والاقتصادية بعد "الحرب الباردة"، إلا أن القادة الأمريكيين بدءا بالرئيس (كلينتون) لم يهملوا أهمية الوسيلة العسكرية في السعي لتحقيق المصالح والأهداف القومية للولايات المتحدة، مثل تدخلها (اثناء حقبة الرئيس بيل كلينتون) في كوسوفو والصومال وهايتي والعراق، وما فعله (بوش الأب) مباشرة بعد سقوط الإتحاد السوفييتي، في العراق وبنما Panama. كل هذه التدخلات تم تسويغها تحت غطاء "التطهير العرقي"، أو "الحكومة الفردية"، أو "تطوير أسلحة الدمار الشامل"، وبعض هذه التدخلات كانت باسم "الإنسانية" ولذا تم تبريرها من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة بأنها بمثابة "رد على تهديد مفترض".
- أعطت فترة ما بعد "الحرب الباردة" هامش مناورة أكبر للولايات المتحدة، لكي تنفرد بالسيطرة على مراكز القوة عالميا، فتبرز أحادية الدور الأمريكي في "النظام العالمي الجديد" في عديد من المظاهر لعل أهمها ما يلي:
تفضيل الخيار العسكري على الخيارات الأخرى المتاحة في معالجة القضايا والأزمات الدولية (على سبيل المثال حرب الخليج في عام 1991، حرب افغانستان 2001، احتلال العراق عام 2003.. الخ).
ممارسة الولايات المتحدة للهيمنة على المؤسسات الدولية والامم المتحدة.
فبالنسبة للمؤسسات الدولية، يبرز ذلك بشكل واضح في النفوذ الأمريكي في صندوق النقد الدولي MFI والبنك الدولي WB، منظمة التجارة العالمية WTO.
أما بالنسبة للهيمنة على مراكز القرار في منظمة الأمم المتحدة وهيئاتها المختلفة، فيظهر من خلال القرارات الصادرة عن (مجلس الأمن الدولي)، إذ أصبح هذا الأخير وبدرجة كبيرة أداة من أدوات السياسة الخارجية الأمريكية.
مع نهاية "الحرب الباردة" وغياب الإتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي كقطب دولي مؤثر في السياسة الدولية كُسر المنطق الإيديولوجي، وتعرض التوازن الدولي إلى خلل كبير واستبدل بالمنطق الأحادي السائد الذي بدأت تتزعمه الولايات المتحدة. وكان هذا الحدث إيذانا بنهاية "القطبية الثنائية" وبداية "عهد الأحادية القطبية"، التي مثلتها الولايات المتحدة الأمريكية طارحة شعارات ودعوات تتفق وإستراتيجيتها المعلنة في العمل على نشر قيمها الخاصة، كـ "الديمقراطية" و "حقوق الإنسان"، و "مبادئ الاقتصاد الحر".
فمثلا وقف الرئيس الأمريكي الاسبق (جورج بوش الأب) عام 1990 أثناء إلقاء خطابه التقليدي السنوي بالكونغرس حيث أشار بوضوح الى أن الولايات المتحدة تقف على أبواب القرن الحادي والعشرين، ولابد أن يكون هذا القرن الجديد قرنا أمريكيا.
ومن هنا ساد شعار الانفراد بعالمية الدور الأمريكي في السياسية الدولية، ورقابتها على الأسلحة الاستراتيجية في إطار حلف الناتو (NATO). ومن أبرز منظري هذا الاتجاه تشارلز كروثامر (Charles Krauthammer)
الذي أعلن أن الانفراد الأمريكي بعالمية الدور الذي يعلن ان المنافسين للولايات المتحدة الأمريكية في عالم يتسم بتعدد الأقطاب لم يكن اكثر من اسطورة، سرعان ما تفجرت كون الولايات المتحدة الأمريكية التي تملك إمكانات ضخمة في حقول متنوعة عسكريا ودبلوماسيا وسياسيا واقتصاديا، مما يجعلها لاعبا حاسما في أي صراع، وفي أي جزء من العالم تختاره في اللعبة السياسية الدولية.
فقد نجحت الولايات المتحدة خلاله في بناء قوة عسكرية ضخمة ومتفوقة، تتوازن مع قدرتها الاقتصادية، الأمر الذي فتح أمام القوة الأمريكية طريق الهيمنة، وإن كان التحدي السوفيتي سابقا قد عطل انطلاق الحلم الأمريكي بجعل القرن العشرين "قرنا أمريكيا"، فقد تأجل الحلم إلى القرن "الحادي والعشرين"، فالولايات المتحدة تقول انها هي مركز العالم ومحوره، وعليها أن تقود العالم في مختلف المجالات، تعبيرا عن الحق والقوة معا، وأن تقدم النموذج الذي تحتذي به كل شعوب العالم، نحو سيطرة فلسفة "الهيمنة".
وهو الفكر الذي يقوم على أن الولايات المتحدة تسعى إلى زيادة قوتها النسبية (مقارنة بقوة الدول الأخرى) إلى أقصى حد، فالدول تكسب الأمن ليس من خلال توازن القوى، بل عبر اختلال توازن القوى لمصلحتها وجاءت الفوضى بتسمياتها المختلفة من "خلاقة" و "بناءة" للحد من نظرية توازن القوى نحو ما سمي بتوازن التهديد The Balance of Threat كما يسميه ستيفن والت Stephen M. Walt.