قراءة في اليمين العالمي المتطرف
بقلم : د. إبراهيم إسماعيل
العودة الى صفحة المقالات

تبدو المخاوف من فوز دونالد ترامب مخيبة للآمال،عندما تقتصر على السياسات التي اعلنها حاكم البيت الأبيض الجديد، وتتغاضى عن وضع "الترامبية" في سياقها الصحيح، كحلقة مقرفة من سلسلة حلقات السياسة اليمينية الرجعية المتطرفة، التي صارت ظاهرة على الصعيد العالمي، تتطلب قراءة عميقة ومتأنية.

تقهقر النيوليبرالية

لقد شكلت هذه الظاهرة، التي نجحت في الجمع بين بقايا الليبراليين الجدد وعتاة العنصريين وعشاق نظريات المؤامرة واليمين المسيحي المتصهين في العقدين الماضيين، تراجعاً كبيراً في الليبرالية الجديدة، ذاك التراجع الذي اقتتحته الأزمة المالية العالمية في عام 2008، سواء من خلال تعميقها لعدم الثقة تجاه النظام، وهو ينقذ البنوك ويفرّط في مدخرات اصحاب الدخل المحدود، أو في كشفها لحقيقة ما نشرته الليبرالية من بؤس ويأس ونهب في كل مكان وهي تعولم الاتصالات والتمويل والثقافة وتفاقم التفاوت بين الشعوب من جهة وفي داخل مجتمعات ماسمّي بدول الرفاه من جهة مكملة، في ذات الوقت الذي جعلت فيه سياسات التقشف ثابتة، والتناقضات الاجتماعية متأججة، وسياسة الهجرة متسعة، وأزمة المناخ أكثر خطورة وتهدد، لا مستقبل الرأسمالية وحده بل بقاء الكوكب بأجمعه.

ولأنه خلق ثقافة سياسية معادية للديمقراطية بشكل عميق، مهّد الحكم النيوليبرالي لهيمنة اليمين العالمي الجديد، حين استبعد الحوار المجتمعي في رسم السياسة الاقتصادية وإلغى القيود التنظيمية للسوق وخصخص الخدمات العامة كالنقل والتعليم والرعاية الصحية، واضعف الإستقرار السياسي في البلدان الغنية والحراكات الاجتماعية في البلدان الفقيرة، وعزز الحاجة لأيديولوجية الأمن والقمع في المجتمعات الليبرالية وراح يبني دولاً بوليسية، تجّرم الفقراء بإعتبارهم تهديداً خطيراً للنظام العام، يتطلب عنفاً يمينياً متطرفاً للخلاص منه.

الفاشية بين الأمس واليوم

وفي سياق دراستهم، انهمك بعض المفكرين الماركسيين في المقارنة بين اليمين المتطرف الجديد والفاشية التقليدية التي سادت في النصف الاول من القرن العشرين. وحذر الكثيرون منهم من التسرع في اطلاق الأحكام واستسهال التقييم على ضوء التجربة التاريخية، حيث لا يمكن فهم تلك النسخة من الفاشية بدون أن نتذكر بعمق، الذعر الشديد الذي شعرت به البرجوازية وهي تواجه مذابح الحرب العالمية الأولى وإنتصار ثورة أكتوبر ومآلات الانتفاضات الثورية الأخرى في أوروبا، الى الحد الذي باتت مستعدة معه لقبول الأنظمة القمعية من أجل الحفاظ على الرأسمالية، بما في ذلك استخدام العنف وتمجيده كعامل "تطهير" للمجتمع.

كما إن صعود الفاشية استلزم أزمة عميقة في الرأسمالية ونهوضاً في الحركة العمالية، وهيمنة البرجوازية الصغيرة على السلطة وتمكّنها من تحقيق تأييد جماهيري واسع، ونيلها دعم البرجوازية الكبيرة التي لم يبق لها خيار آخر لإستدامة هيمنتها. أما اليمين المتطرف اليوم، بما في ذلك "الترامبية"، فأنه ينمو في ظل غياب استقطاب بين الطبقات وركود في الحركة العمالية وعجز عن تحشيد الجماهير. وعلى عكس المجتمع الفاشي عالي التنظيم في القرن العشرين، يتسم مجتمع اليمين المتطرف بالتفتت وبذوبان الروابط الاجتماعية التي لا يتم استبدالها بروابط أخرى.

ويعترض مفكرون على تسمية هذا اليمين بالشعبوية، لغموض في هذا المصطلح وللخشية من استخدامه في إزدراء الشعب، مقترحين استبداله باليمين الرجعي الإستبدادي، الذي له سمات الفاشية التقليدية، لكنه يختلف عنها في افتقاده لمشروع واضح للمستقبل، حين يتوهم القدرة على إعادة تأسيس الرأسمالية مع النمو غير المحدود، وما شعار ترامب "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" سوى مثال على الرجوع للماضي ودعوة لإلغاء المستقبل.

وحدة في المظهر

وتكشف قراءة هؤلاء المفكرين لهذا اليمين، عن وجود سمات مشتركة بين تجمعاته في البلدان المختلفة، من أبرزها تقليص حقوق العمال الذين شيدوا المجتمعات المتقدمة، وكراهية الأجانب (المهاجرين) واتهامهم بالمسؤولية عن انحدار المجتمع، وتأجيج الإسلاموفوبيا بطريقة تذكرنا بما حصل مع اليهود على يد الفاشية التقليدية، اضافة الى نزعته الإستبدادية التي تتجلى في سيطرته على المواطنين وتخريب النقابات والحركات الديمقراطية وهجومه على النسوية وحقوق المرأة، ومحاولته تحقيق الأمن في المجتمع من خلال العقوبات القاسية، وادعائه بأنه يمثل المستضعفين ويعادي النخب الفاسدة، في سعي تضليلي لإستثمار السخط لدى العاطلين عن العمل والمهددين بالبطالة أو بخسارة كلٍ أو بعضٍ من خدمات الرعاية الاجتماعية. كما يركز هذا اليمين على ما يسميه استعادة المجتمع الثقافي والعرقي المتجانس للأمة، ويرفض التعددية الثقافية في المجتمع، نافياً أن يكون وراء ذلك دافع عنصري ما، بل لحاجة هؤلاء المختلفين ثقافياً للإنفصال عن بعض كي يعيشوا بهناء وسلام بعد أن فشلوا في "التشارك بالقيم الأصيلة للمجتمعات المتطورة"!

اللاليبرالية

وعلى الرغم من أنها لا توجه عملها ضد الليبرالية الجديدة التي تسببت في الأزمة الاجتماعية بهذه البلدان، بل ضد الأجانب لأنهم يلتهمون بعض ما في الصحن، وضد الشغيلة حيث ليس في الصحن ما يكفي لإطعام الجميع، تحقق هذه السياسات المتشابهة للأسف نجاحات كبيرة، ربما بسبب الخوف من العولمة واستغلال حالة عدم اليقين التي تفرضها.

وبديهي إذن، إن تتقاطع هذه الحكومات اليمينية المتطرفة مع الديمقراطية البرجوازية وأن لا تحترم بعض مؤسساتها، وأن تسعى لتقييد الحريات واستقلال القضاء، وتهاجم وسائل الإعلام والحقوق المشروعة للأقليات ولا تتورع من اعادة الإعتبار للدكتاتوريات العسكرية، الى الحد الذي يعتبر فيه بعض المفكرين هذه اللاليبرالية أعلى مراحل الليبرالية الجديدة، مستشهدين بما يجري في الفلبين والهند واسرائيل والمجر وبولندا والسلفادور وأخيراً في واشنطن.

وقد اصبحت الأصولية الدينية الإنجيلية سمة مشتركة أخرى لهذا اليمين، رغم رفض الفاتيكان له، مدعية حرصها على حماية المجتمعات من الإنحلال الأخلاقي، ومعّربة عن دعمها غير المشروط لإسرائيل وللسياسات المتشددة ضد الإسلام. وتتخادم هذه الكنائس مع اليمين الرجعي الإستبدادي، وتساعدها "أعمالها الخيرية" الموجهة لأفقر الناس في الوصول الى دعم شعبي واسع. ولا يقتصر ذلك على المسيحية، فمنظمة (راشتريا سوايامسيواك سانغ) تنشر الكراهية الدينية في الهند ولها ميليشيا مكونة من ستة ملايين عضو وتدعم بقوة حكومة مودي القومية.

وتتنكر الحركات اليمينية المتطرفة لأزمة المناخ كلياً أو جزئياً، وذلك في تناغم طبيعي مع ارتباطها بالرأسمالية ودفاعها عن الشركات المتعددة الجنسيات التي تريد الاستمرار في نهب موارد الأرض. وتستخدم هذه الحركات سياسة التشكيك في العلم ومهاجمة المدافعين عن البيئة واحياناً لإلقاء اللوم على الصين أو على المهاجرين، حيث إدعت زعيمة التجمع الوطني في فرنسا، على سبيل المثال، بأن الهجرة تدمر البيئة، لأن "البدو" بلا جذور ولا وطن ولهذا ليسوا من حماة البيئة.

ضحايا المؤامرة

كما أصبحت نظريات المؤامرة جزءا أساسيا من رسالة اليمين المتطرف وسياسته في تشويه سمعة الأقليات أو نشر الأكاذيب والمعطيات غير المعقولة عن الواقع، مستفيداً من وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات عبر الإنترنت. ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك ادعاءات ترامب حول أكل المهاجرين للحيوانات الأليفة واعتبار فيروس كوفيد وباءً مبرمجاً لزيادة أرباح مصنّعي اللقاحات أو لتقليل عدد السكان، وما نشرته مؤخراً منظمة QAnon من أن العالم تحكمه مافيا من الشياطين الذين يتحرشون ويتاجرون بالأطفال، وإن ترامب قد انتخب رئيسا لكشف ومعاقبة هذه المافيا، التي تشجع الهجرة من أفريقيا والشرق الأوسط بشكل أساسي إلى بلدان ذات أغلبية بيضاء بهدف إبادة العرق الأبيض. إن صانعي نظريات المؤامرة يسعون بكل قواهم لإحداث تغيير سياسي، سواء كان ذلك من خلال ترهيب المعارضين بغية إسكاتهم، أو من خلال المشاركة المباشرة أو غير المباشرة في الأعمال الإرهابية أو من خلال إدارة حملات سياسية معينة. وبالتأكيد، تسبب هذه النظريات ضرراً كبيراً في التبادل بين الشعوب وتناهض السلام والتضامن بين البشر.

طريق الشعب

  كتب بتأريخ :  08-02-2025     عدد القراء :  102       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced