العراق من البلدان الأكثر تأثراً بالتغيرات المناخية الكبيرة والمتسارعة، التي يشهدها العالم، والتي تحولت الى واحدة من أخطر المشكلات البيئية الساخنة عالمياً. وإودراكاً لخطورتها، إعتبرتها الأمم المتحدة قضية مصيرية، منبهة الى ان التكيف مع هذه التأثيرات سيكون أكثر صعوبة، وأكثر تكلفة في المستقبل - إذا لم يتم تدارك الكارثة جدياً باجراءات عاجلة وفعالة..
فقد شهد العقدان الأخيران تفاقم وإتساع التداعيات الخطيرة للتغيرات المناخية في العراق، مع انه لا يتحمل، شأنه شأن معظم الدول النامية، مسؤولية أكثر من 5 % من إنبعاث غازات الدفيئة المسببة للإحتباس الحراري في العالم - وفقاً لتقرير" المنتدى العربي للبيئة والتنمية" (أفد) لعام 2011. ويًعدُ من أكثر البلدان هشاشة وتعرضاً لآثار التغيرات المناخية الضارة.
وكشفت الأمم المتحدة في تقرير مفصل في عام 2021 عن مخاطر جسيمة تهدد العراق، نتيجة للتغير المناخي والتحديات التي بات يفرضها على الأرض والإنسان، مبينة تقديراتها لمدى خطورة الوضع والاقتراحات التي يفترض أن يتم الأخذ بها للحد من الإضرار بمعيشة الناس والبيئة(1)..
وفي نفس العام، أكد رئيس الجمهورية السابق د. برهم صالح في مقال له في صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية، كرسه للتغير المناخي في العراق عشية مؤتمر الأمم المتحدة العالمية للمناخ (COP 26) في اسكتلندا: " إنّ الأدلة على تزايد مخاطر المناخ تُحيط بنا. فأصبحت درجات الحرارة العالية أكثر شيوعاً، والجفاف أشدّ حدّة، والعواصف الترابية أكثر تواتراً.والتصحّر يؤثر في 39٪ من مساحة العراق، و 54٪ من أراضينا معرّضة لمخاطر فقدانها زراعياً بسبب التملّح "وأكدت وزارة البيئة الاتحادية في عام 2022 أن العراق يخسر 10 مليارات دينار يومياً جراء التغير المناخي، الذي أقرت إنه بات من أهم التحديات التي تواجه العراق.وأعلن وكيل الوزارة د. جاسم الفلاحي إن “العراق يعد من أكثر البلدان تأثراً في التغيرات المناخية”، مبيناً أن “تقرير الأمم المتحدة صنّف العراق واحداً من خمسة بلدان هي الأكثر تأثراً بموضوع التغيير المناخي”.
وأوضح أنه “منذ ثماني سنوات، ومنذ مشاركتنا اتفاقية باريس للتغيرات المناخية عام 2015، فإن التغير المناخي بات من أهم التحديات التي تواجه العراق”، مبيناً أن “ذلك بدا واضحاً من خلال ارتفاع درجات الحرارة غير المسبوق، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات التصحر وتدهور الأراضي بتأثير الجفاف وارتفاع معدلات العواصف الغبارية والرملية”.
ووصف حجم الخسائر التي يتكبدها العراق جراء التغير المناخي بـاللهائل، سواء في شقه الاقتصادي أو الصحي، مبيناً أن ردهات الطوارئ تمتلئ جراء العواصف الغبارية والرملية، وعلى المستوى الاقتصادي فإن التغير المناخي في جزئية العواصف الغبارية يسبب ان نخسر نحو 10 مليارات دينار يومياً بسبب الازدحام غير المسبوق في ردهات الطوارئ وتوفير العلاجات لمرضى الجهاز التنفسي والربو والحساسية، كما أن هناك خسائر اقتصادية على مستوى النقل البري والجوي وتصدير الموارد النفطية، فضلا عن ازدياد وتيرة الهجمات للعصابات الإرهابية أثناء العواصف الغبارية الشديدة والمتكررة، ولفترات أطول للموجة ودرجات حرارة مرتفعة بشكل حاد(2).
وعلى صعيد الأحداث والوقائع، يثبت تسلسلها ان تنفيذ الحلول والمعالجات الآنية يتواصل تعثره، وبقيت المشاريع المطروحة لمعالجة التغيرات المناخية، أو للتخفيف من وطأتها،حبراً على ورق..وكي لا نُتهم بالعموميات سنشير بإختصار الى عدد من الأمثلة:
في عام 2008، نبه الخبير البيئي والوكيل الأسبق لوزارة البيئة د. علي حسين حنوش الى ان التغيرات المناخية غير العادية، التي تمر على المنطقة عامة، والعراق بشكل خاص، تشكل ظاهرة تتطلب التعرف على أسبابها والسعي لمعالجتها عاجلآ.(3)
وقررت الأمانة العامة لمجلس الوزراء في اذار 2009، تشكيل لجنة مختصة لإعداد مسودة مشروع تأثير تغير المناخ على الصحة، الممول من منظمة الصحة العالمية (WHO)،وأن تقدم اللجنة توصياتها الى دائرة شؤون اللجان في الأمانة العامة لمجلس الوزراء.
وفي عام 2012،أُعلن عن تشكيل "هيئة عليا لمكافحة التصحر"، ضمت وزارات الزراعة والموارد المائية والبيئة، وممثلين عن مجالس المحافظات. وأفاد وكيل وزارة الزراعة الأسبق د. صبحي الجميلي: إن الهيئة بدأت تأخذ على عاتقها عملية البحث عن السبل الكفيلة للحد من تنامي ظاهرة التصحر في الأراضي ذات التقشر السطحي للتربة، واعتماد آليات لتطبيقها(4).
وحددت وزارة البيئة في حالة البيئة العراقية لعام 2015 أبرز مؤشرات التغير المناخي في البلاد، وهي: ارتفاع معدلات درجات الحرارة، وقلة هطول الأمطار، وازدياد شدة هبوب العواصف الغبارية، ونقصان المساحات الخضراء..
وأطلقت الحكومة العراقية، بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، في أيلول 2016، "عملية الخطة الوطنية للتكيف" بهدف بناء قدرة البلاد على مواجهة تغير المناخ،من خلال التخطيط الاستراتيجي القائم على التوقعات المستقبلية، ودعم العراق في صياغة وتنفيذ خطته الوطنية للتكيف، مع التركيز بشكل خاص على تعزيز القدرات المؤسساتية والتقنية والمالية لضمان إدماج احتياجات التكيف متوسطة وطويلة الأجل في التخطيط الإنمائي الوطني..كانت مدة المشروع 3 سنوات، وكان ممولاً من قبل (صندوق المناخ الأخضر) بنحو 2.5 مليون دولار أمريكي
علماً بأن توقعات الجهات المعنية كانت أن يتسبب تغير الـمناخ في العراق في انخفاض معدل هطول الأمطار السنوية، وزيادة في العواصف الرملية، وانخفاض الإنتاجية الزراعية، وازدياد حدة شح المياه. وكان من المرجح أن يكون لهذه التحديات آثار خطيرة على صحة العراقيين، بالإضافة إلى قطاعي الزراعة والصناعة، اللذان يسهمان بشكل كبير في الناتج المحلي الإجمالي للدولة (5)
بيد أن الواقع لم يشهد "تحقيق" المسؤولين المتنفذين في السلطة سوى الكلام المعسول وكثرة إعلان المشاريع التي لم تنفذ، رغم تفاقم تداعيات التغيرات المناخية، الأمر الذي دعا الامم المتحدة ان تؤكد في كانون الأول 2020 ،أي بعد 4 سنوات من إطلاق الخطة الوطنية للتكيف، أن العراق يدخل في خانة أكثر الدول تأثراً بالتغيرات المناخية، وهو بحاجة ماسة لإجراءات جدية عاجلة لحماية البيئة وللتخفيف من التغيرات المناخية وتداعياتها الخطيرة.
من جهتها،دعت بعثة الامم المتحدة في العراق (يونامي) والدول المشاركة في قمة العمل المناخي،عام 2020، العراق ، الى اتخاذ اجراءات مناخية جدية وعاجلة لحماية البيئة للاجيال القادمة..
واليوم، يحتل العراق المرتبة الخامسة في قائمة الدول الأكثر تأثرا بظاهرة التغير المناخي، وسط توقعات بأن يشتد تضرر البلاد من هذه الظاهرة في المستقبل المنظور.
ويؤكد برنامج الأمم المتحدة للبيئة بإن الآثار الاقتصادية والبيئية والصحية الناجمة عن تحولات المناخ، تمثل التهديدات الأشد فتكا التي يواجهها العراق.
وما تزال المشاكل البيئية الساخنة، وبضمنها التغيرات المناخية، بعيدة عن إهتمام وأولويات الحكومات العراقية، مقرونة بجهل وإهمال مؤسساتي ومجتمعي في تقدير خطورة هذه التأثيرات على المواطنين:على واقعهم الإقتصادي والإجتماعي، وعلى تنمية البلد ورفاهيته، وعلى الصحة العامة، في وقت نبهت فيه منظمة الصحة العالمية الى حصول ملايين الوفيات المبكرة سنوياً إرتباطاً بتلوث الهواء المسؤول غالباً عن معظم وفيات أمراض القلب والسكتات الدماغية وسرطان الرئة وذات الرئة، إضافة لإتهابات الجهاز التنفسي الحادة الأخرى.
وإن بقيت الأمور على ما هي عليه فستقود إلى مستقبل قاتم متوقع للعراق، يخيم عليه الفقر والجوع والعطش والهجرة، وذلك بفعل التغيرات المناخية التي سيصبح العراق البلد العربي الأكثر تأثراً بها- بحسب تقرير نشرته "الفايننشيال تايمز" البريطانية، في تشرين الثاني 2021.وجاء فيه:" إن التأثير البيئي المحتمل لتغير المناخ هو أخطر تهديد طويل الأمد سيواجه العراق، وتفوق خطورته ما شهدته البلاد من حروب وعقوبات وارهاب وصراعات داخلية طوال السنوات الماضية”.وأشار التقرير الى درجات الحرارة العالية جدا في جميع أنحاء البلاد، وأصبح الجفاف أكثر تواتراً ،والعواصف الترابية أكثر حدة، ويؤثر التصحر على 39% من أراضي العراق، كما أن زيادة الملوحة تهدد الزراعة بنحو 54% من المساحة المزروعة في البلاد. ودعت الصحيفة وجوب أن تكون مواجهة تغير المناخ أولوية وطنية ملحة(6)...
الهوامش:
1- "طريق الشعب"، 12/12/2021.
2"القدس العربي"،11/10/2022
3- علي حسين حنوش، حماية البيئة العراقية: دراسة تحليلية لبعض فصول البيئة، وسبل إستدامتها. محاضرات لفريق من الأكاديميين العراقيين من قبل منظمة اليونسكو، بالتعاون مع جامعة بنكر- ويلز، كانون الثاني 2008، ص 97- 98..
4 - تشكيل هيئة عليا لمكافحة التصحّر في العراق،"المدى"، 29/4/2012
5-العراق يطلق خطة التكيف الوطنية من أجل مكافحة تغير المناخ ،وزارة البيئة،16/9//2016
6 - تأثيرات المناخ على العراق ستكون أخطر من الحروب والإرهاب، متابعة:"المدى"، 1/11/2021
الأستاذ الدكتور كاظم المقدادي أكاديمي عراقي متقاعد، متخصص بالصحة والبيئة.