يعرف العراقيون قصة انتحار ثاني رئيس الوزراء بعد تأسيس الدولة العراقية، أيام العهد الملكي عبد المحسن السعدون في النصف الأول من القرن الماضي، الذي ينتصب تمثاله في بداية أهم شوارع العاصمة العراقية المسمى باسمه شارع السعدون. بعد رفضه التوقيع على معاهدة عام 1925، التي أرادت سلطات الاحتلال البريطاني من خلالها فرض بنود مجحفة تضمن افضليات مهمة لبريطانيا على حساب سيادة العراق ومصالحه، وإلغاء قرارات له بتخفيض رواتب المستشارين البريطانيين وتقليص امتيازاتهم.
تدور شكوك حول ظروف انتحاره، لا سيما وأنه كضابط مسلكي تدرج في رتبه، وقاتل ضد قوات الجنرال الانكليزي مود عند احتلالها للعراق، لا يمكن رميه بضعف الشخصية والوهن.
وأيا كانت ظروف نهايته المأساوية هذه، أكانت انتحارا أم تصفية، فإنه ذهب إلى دار حقه بعد أن سطّر موقفاً وطنياً، رافضاً، في سجل التاريخ، نال إعجاب العراقيين وتقديرهم العالي لتضحيته وإيثاره.
واليوم حيث تحتدم المشاعر الغاضبة، بعد تقديم رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني ورئيس الجمهورية عبد اللطيف رشيد التماسا للمحكمة الاتحادية العليا بإعادة النظر في قرارها برفض الإقرار بدستورية وقانونية تنازل الدولة العراقية عن حقوقها التاريخية في خور عبد الله (خور - ممر مائي) لصالح دولة الكويت… والذي ترافق مع تنامي الاحتجاج الشعبي لهذا الموقف اللاوطني الغريب والمفرّط بالحقوق الوطنية من السلطة التنفيذية وقبلها مجلس النواب العراقي بغالبيته الإسلامية...
وبالخداع الذي مورس حول طبيعة وحقيقة الاتفاقية بالادعاء بأنها لتنظيم الملاحة في الخور، بينما هي عملية بيع رخيصة للخور بمجمله.
يورد المهندس البحري ووزير النقل السابق عامر عبد الجبار طرفة برلمانية والألم يعتصر قلبه حول موقف (نواب الشعب) من التصديق على اتفاقية خور عبد الله التميمي مع الكويت، فعند تقديم الاتفاقية امام مجلس النواب، اعتبرها ممثلو الشعب " مذلة " ولكن عند طرحها للتصويت، صوتوا لصالح التنازل عن الخور وعن حقوق العراقيين!!!
تُرى أيّة قوة خارقة أو أي إله جعلهم يُغيرون مواقفهم ويجردهم من غيرتهم الوطنية، برمشة عين، ويضغطون على زر الموافقة " موافج ”!
كما لم يوضح الرئيسان للعراقيين أوجه الكسب والمنفعة من صفقة بيع الخور للكويت!!!
وكان الكشف عن تسلم مسؤولين كبار في الدولة رشاوى بالمليارات وهدايا ثمينة، عند توقيعهم الأولي على الصفقة عام 2013، باعتراف الكويتيين أنفسهم… قد أغضب الأوساط الشعبية أكثر وطالبت بالانسحاب من الاتفاقية الجائرة.
وقد هدد وزير كويتي، إثر ذلك، بالكشف عن المسؤولين العراقيين القابضين للرشاوى، لو جرى التراجع عن الاتفاق. وهو بذلك يكون قد فضح فساد حكومته من حيث لا يدري، أي ان فساد المسؤولين الرسميين يتلبس الجانبين، الراشي والمرتشي!!!
وهذا الاعتراف الكويتي بحد ذاته سبب أخلاقي وقانوني واضح لبطلان الاتفاقية!
تأخر بت المحكمة الاتحادية العليا في كلمتها الأخيرة للعدول عن موقفها الدستوري لصالح رغبة رئيسي الوزراء والجمهورية في التخلي عن خور عبد الله للكويت، حتى إشعار آخر، بينما يتنامى الرفض الشعبي ضد أي تنازل عن أيّة أراضٍ أو مياه أو حقول نفط عراقية لأيّ كان… وزير كويتي عبّر عن انزعاجه للرفض الشعبي وذكّر إلى أن يهتموا بالتنازلات الحكومية للحقوق العراقية لإيران، ويجب أن يكون لهم حصتهم أيضاً. وكأن العراق أصبح لقمة سائغة يحق لكل من هب ودب أن يقضم قطعة من أرضه ومياهه.
وكل ذلك طبعاً بسبب الطغمة الفاسدة التي رهنت البلاد بالجملة لإيران، ومستعدة لتجزئة العراق وبيعه بالقطعة لشذّاذ الآفاق، لأنهم بلا وازع وطني.
أننا نعيش محنة وطن ومحنة شعب مع هذه الطغمة التي حمت، بالأمس، اعراض العراقيين، كما تدعي، لكنها تبيع اليوم أرضهم ومياههم في سوق النخاسة.
أن التحرر من آثار وآثام عصور الاستبداد ومن آثار وآثام سنوات الاحتلال الأجنبي وحكم الطوائف والأعراق والعشائر، أصبح المخرج الوحيد لإنقاذ البلاد من التمزق وصيانة وحدته الوطنية.
تاريخ العراق حافل بالانتفاضات والثورات ضد الطغاة من كل الأنواع، والنضالات ضد المحتلين من كل الأجناس، لذا ونحن على أعتاب انتخابات برلمانية، فإن تآزر الوطنيين وانتفاض كل من يعز عليهم مصير الوطن العراقي وكل من يهمه انقاذه من مافيا الفساد، أصبح ضرورة حاسمة لا يمكن التكاسل او التهاون إزائها، وإجراء مراجعة شاملة لفترة العشرين عاماً الماضية بما فيها نهج المحاصصة الذي سلكوه، وتحديد جوانب الفشل وتسمية المسؤولين عنه، وتقديم كل من فرط بمصالح العراقيين وسيادتهم للمحاكم العراقية لينال حسابه العادل.
تَعسّفَ قومٌ بالعراقِ وساومُوا….. على وطنٍ ما سِيم يوماً بأثمانِ
الشيخ محمد رضا الشبيبي