في لحظة مفصلية من صراع الإرادات في المنطقة، وضعت حكومة اليمين الصهيوني الأنظمة العربية أمام طريقٍ واحد لا طريق غيره، هو: الإذعان الكامل عبر التطبيع والانخراط في مشروع الاحتلال بشروطه التوسعية والاستيطانية، والاعتراف بإسرائيل الكبرى كأمرٍ واقع لا يقبل النقاش. ومن يرفض الانصياع جزاؤه العقاب، بالضغوط الاقتصادية، والحملات الإعلامية، والابتزاز السياسي، وربما حتى الفوضى المدبّرة أو الزعزعة الأمنية الموجهة من خارج الحدود. فلم يعد ثمّة متّسع للمواقف الرمادية بعد ان حُسمت المسألة: إما أن تقبل بالتبعية للمشروع الأمريكي–الإسرائيلي، أو تُوضع على لائحة الاستهداف.
ولم يكن خضوع هذه الأنظمة سوى حصيلة طبيعية لبنيتها الداخلية، فهي أنظمة لم تُبنَ على شرعية شعبية، بل على القمع والولاء. لا على مؤسسات دستورية، بل على سلطات أمنية. ومهمتها ليست خدمة الناس، بل ضبطهم. وبوصلتها ليست فلسطين، بل واشنطن. وسقفها ليس العدالة، بل رضا واشنطن، الذي يُدفع ثمنه من خزائن النفط، ويُقبض مقابله صمتٌ مُذلّ. أنظمة ترى في المقاومة خطراً على عروشها، وفي صوت الشعوب تهديداً لـ"هيبة الدولة". وهي تجيد إصدار بيانات الشجب، لكنها تعجز عن قول "كفى". هكذا تحوّل "التضامن" إلى طقس موسمي بلا روح، وتحولت القدس وغزة والضفة إلى مفردات تُنطق علناً وتُدهس سرّاً.
حتى جاء العدوان الإسرائيلي الأخير على إيران، الذي نُفّذ عبر أجواء الدول العربية، ليعرّي كل شيء. فهو عدوان سافر، نُفّذ بوقاحة في وضح النهار، من فوق أراضٍ لم تعترض، ولم ترفع حتى صوت رفض خجولاً. وفي الاثناء لم تكن السيادة منتهَكة فقط، بل كانت مغيّبة تماماً، كأن هذه الدول تخلّت عن كونها دولاً.
وحين جاء الردّ الإيراني، بدا المشهد كاريكاتورياً. فالأنظمة العربية ارتبكت، خافت، صمتت، ثم حاولت تدارك الأمر ببعض التصريحات المائعة. أما إسرائيل، فقد اهتزّت صورتها العسكرية التي طالما قدّمتها كقوة لا تُقهر. الردّ أربكها، أحرجها، وفضح غطرستها. رغم تفوّقها التكنولوجي، خصوصاً في سلاح الجو، مقابل هشاشة الدفاعات الإيرانية وضعف قواتها الجوية. ولولا التدخّل الأمريكي المباشر، دعماً وتنسيقاً ومشاركةً، ومعه الموقف الغربي الموارب، لكان شكل المعادلة قد تغيّر سريعاً وبشكل لافت.
ولم يكن التدخل الأمريكي غطاءً دبلوماسياً فقط، بل كان جزءاً من غرفة العمليات. حيث لم تكتفِ واشنطن بتوفير الغطاء السياسي، بل وقفت في الصفّ الأول تُحرّك أدواتها، وتوُزّع المهام، وتُدير إيقاع المعركة بما يخدم أمن إسرائيل، ولا أحد سواها. وهكذا، فإن العالم اليوم تحكمه القوة لا العدالة. المنظمات الدولية صامتة أو ليس من يعبأ بكلمتها، والمؤسسات الإقليمية مجرّد ديكور سياسي يُستدعى عند الحاجة، ثم يُطوى بصمت.
السؤال اليوم لم يعد :التطبيع أم عدمه؟ السؤال عن مصير منطقتنا برمّتها، من يملك قرارها؟ من يرسم حدودها؟ من يتحكّم في مواردها؟ ومن يُقرّر الحرب والسلم فيها؟
لا يمكن لأمّة أن تحمي كرامتها إذا كانت عاجزة عن حماية مجالها الجوي. فالردّ على العدوان لا يبدأ بالصواريخ، بل بتحرير الإرادة. والهزيمة الحقيقية لا تقع حين تُقصف المدن، بل حين يُسكت صوت الشعوب، ويُحذف حضورها من خرائط القرار.
ولن تتغير الأحوال الا حين تعود الكلمة إلى أصحابها،ُ وتُنتزع السيادة من الطغاة، وتُغلق العواصم أبوابها في وجه المعتدين لا في وجه أبنائها، والا حين يصبح للمواطن صوته، وللشعب رأيه، وللكرامة أهميتها في صنع القرار.