في سنوات سابقة كثيرا ما التقيت أثناء عملي في الخليج بعمال خدمات ومنظفات بيوت، ممن ينتمي أغلبهم إلى ولاية كيرالا الواقعة جنوب الهند بين بحر العرب وسلسلة جبال غاتس الغربية، ولفت انتباهي حينها المستوى الثقافي المتقدم وحسن هندام ولياقة هؤلاء العمال نسبة لغيرهم من عمالة الجنسيات الآسيوية الأخرى. ومنهم تعرفت على طبيعة تلك الولاية ذات المناظر الطبيعية الخلابة الشهيرة بالسياحة وبرخص تكاليف العيش فيها لأكثر من 34 مليون نسمة عدد سكانها بينهم ثمانية ملايين مسلم. وعلى الرغم مما تتمتع به المنطقة من موارد طبيعية، حتى يقاُل إن أصل مفردة كيرالا يرجع لعبارة "خير الله" لغزارة خيراتها من التوابل والأرز وجوز الهند، لكنها عاشت دهورا من الفقر والعوز مما دفع بهؤلاء العمال للهجرة نحو الخارج بحثا عن لقمة العيش.
المدهش أن كيرالا ذات الحكم الشيوعي الواقعة في منطقة غالبا ما تُسمع فيها طبول الحرب، خاصة بين الجارتين النوويتين الهند وباكستان، أعلنت منذ سنوات عن معاركها الحقيقية ضد الفقر والأمية والبطالة والأزمات الصحية العامة، وإنها لا تُعنى بترسانتها الحربية قدر اهتمامها برفاهية شعبها، وسعيها للقضاء على الفقر المدقع.
ومن مقال نشرته جريدتنا "طريق الشعب" أخيرا بترجمة نادر رضا، عرفنا أن هذه المنطقة تشهد بارقة أمل بأن تصبح أول ولاية هندية تقضي نهائيا على الفقر المدقع بحلول شهر نوفمبر – تشرين ثاني من هذا العام.
يرجع هذا الانجاز إلى عقود من السياسات المستوحاة من الاشتراكية التي تعطي الأولوية للتنمية العادلة وللديمقراطية الشعبية وللكرامة الإنسانية، مقدمة رؤى حاسمة حول كيفية تمكين الاستراتيجيات النظامية القائمة على خدمة المجتمع من انتشال الملايين من الحرمان، مما يثبت أن الفقر خيار سياسي وليس واقعا حتميا.
وفي مسح كانت قد أجرته السلطات هناك عام 2021 ركز على أربعة مؤشرات: نقص الغذاء، الدخل، السكن، الرعاية الصحية، تبيّن ان 64006 أسرة تعيش بفقر مدقع، 81 بالمائة منها تقيم في المناطق الريفية، ما استدعى وضع خطط مصممة خصيصا لكل أسرة، من الإغاثة الفورية (طرود غذائية، رعاية صحية طارئة) والدعم قصير الأمد مثل السكن المؤقت والمساعدة في التوظيف، إلى جانب وضع حلول طويلة الأمد تتعلق بالتدريب على المهارات، وتوفير السكن الدائم.
مكافحة الفقر حدثت عبر تاريخ طويل من الإصلاحات التي قادها الحزب الشيوعي الهندي والجبهة الديمقراطية اليسارية، محققة التحول عبر مجموعة من الابتكارات السياسية التي أعادت تشكيل علاقات ملكية الأرض ونظام الحكم وآليات تقديم الرعاية الاجتماعية، وتحسين المستويات المعيشية وإرساء قاعدة التعليم، حتى بلغت نسبة الإلمام بالقراءة والكتابة 96.2 بالمائة، إلى جانب العمل على تمكين المرأة عبر برنامج (رفاهية العائلة) بقيادات نسائية تجمع بين تمويل المشاريع الصغيرة وريادة الأعمال، مع توفر برامج للضمان الاجتماعي.
هنا لابد أن نقارن بحسرة أوضاع بلدنا (الغني) بولاية كيرالا عند الإشارة لآخر إحصاءات وزارة التخطيط التي بيَّنت بلوغ نسبة الفقر في العراق 17.5 بالمائة وتفاوتت بين المحافظات فسجلت المثنى أعلى نسبة فقر بلغت 43 بالمائة، تلتها بابل والبصرة 27 بالمائة والأنبار 22 بالمائة وبغداد 13 بالمائة.
المصدر: طريق الشعب