لم يعد الجفاف في العراق أمرا طبيعياً، ولا نقص المياه قدراً مناخياً. لقد تحوّل العطش إلى سياسة ممنهجة، وصار الجفاف عقوبة جماعية بعد أن سُرقت مياهنا، كما سُرقت أموالنا، وإرادتنا، وقرارنا الوطني.
منذ سنوات، تنتهج دولتان جارتان، تركيا وإيران، سياسة الخنق المائي ضد العراق. الأولى شيّدت السدود، وقلّصت الحصص، وتحكمت في دجلة والفرات كما لو أنهما ملك خاص لها، لا شريان حياةٍ لواحد من اعرق بلدان المنطقة والعالم. والثانية غيرت مجاري الأنهر، وأغلقت روافد أساسية، من دون اكتراث بمباديء الجيرة أو بأحكام القانون الدولي.
لكن السؤال الأهم يبقى: ماذا فعلت الحكومات العراقية المتعاقبة، التي يُفترض أن تحمي سيادة الدولة وتصون حقوق مواطنيها وكرامتهم؟
للأسف الشديد لم تفعل شيئاً.
والسبب هو ان ما لدينا ليس نظاماً سياسياً وطنياً بمفهومه الحقيقي، بل سلطة محاصصة، تُدار عبر وكلاء توزعت ولاءاتهم إقليمياً ودولياً. وحين تراجعت حكوماتنا المذكورة عن المطالبة بحقوقنا المائية، لم تفعل ذلك حرصاً على التهدئة، بل تواطؤاً مغطىً بادعاءات ديبلوماسية. وحين غاب القرار العراقي عن طاولات التفاوض الإقليمية، لم يكن ذلك انشغالاً بقضايا مصيرية، بل بصراعات المغانم، وتقاسم المناصب ومناطق النفوذ.
ولأن قرارنا الوطني بات منقسماً، مرتهناً، وبالتالي غائباً، لم نفلح حتى اليوم في اتخاذ موقف صريح تجاه من حجبوا المياه عن أهل العراق.
لم نوقّع اتفاقية ملزمة تحفظ الحصص المائية. لم نفعّل أدوات الضغط السياسي والاقتصادي. لم نطالب بتدويل الملف، ولم نربط العلاقات التجارية بحقنا السيادي في الحياة.
ولم تعد القضية الجوهرية تكمن في سدود تركيا وفي أنهار إيران وحسب، بل وفي تحويل العراق إلى حديقة خلفية، بلا سيادة، ولا قرار، ولا موقف.
نعم، ثمة أسباب خارجية جلية، لكن من جعل الأزمة مميتة هو المنظومة السياسية القائمة ذاتها: فمن فرّط بالماء هو نفسه من فرّط بالثروات، وبالسيادة والكرامة الوطنيتين. وهو ذاته من خضع للخارج، وانساق خلف الإرادات الإقليمية، واعتبر المياه ورقة تفاوض ثانوية، تُبادَل بالمواقف والاصطفافات الطائفية.
وعلى المستوى الداخلي، لم تُبذل أية جهود حقيقية لوضع استراتيجية وطنية تعيد النظر في أساليب الري البدائية، أو تستثمر في تقنيات المعالجة والتدوير، أو تنظم استهلاك المياه بين القطاعات.
أما الفلاحون، وهم عماد هذا البلد، فقد تُركوا يواجهون الجفاف وحدهم، بلا دعم، ولا تعويض، ولا أفق.
الأمل لا يولد من الصمت، بل من الفعل. وكما قاوم هذا الشعب الاستبداد والطغيان والاحتلال، عليه اليوم أن يقاوم من تسبب في جفاف الأنهار. ولا أمل في استعادة مياه العراق دون استعادة قراره الوطني أولاً، ودون مواجهة صريحة مع أدوات الفشل، ثم التوجه إلى المجتمع الدولي بملف سيادي واضح، ووضع قضية المياه على رأس أولويات الدولة والمجتمع.
لا حل بلا إرادة وطنية. ولا معنى لأي سلطة لا تعتبر دجلة والفرات خطوطاً حمراء لا يُساوَم عليها، ولا تُهدى، ولا تُرهن.
ومن هنا، يصبح تحقيق الحل مرهوناً بالتحرك في المسارات التالية:
استعادة القرار الوطني المستقل كأساس لأي تفاوض مائي أو سياسي.
تدويل ملف المياه وطرحه أمام الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية كقضية وجودية.
ربط ملفات التعاون الاقتصادي والتجاري مع تركيا وإيران بحقوق العراق المائية كشرط لا تنازل عنه.
إطلاق استراتيجية مائية وطنية تستثمر في تقنيات الري الحديثة، وتحدّ من الهدر، وتعيد توزيع الموارد بعدالة، بعيداً عن الفساد الذي يكاد فيضانه يغمر كل شيء.
بناء حركة مجتمعية ضاغطة من الفلاحين والنقابات والناشطين، لتكريس حق الناس في الماء كحق سيادي، لا كمنّة من أحد.
لن يمنحنا أحد الماء.
علينا ان ننتزعه بإرادة حرة، وقرار مستقل، وقلب غير هيّاب.