نكتب، ونظن أنّ كلماتنا ستصل كما نريد، لكنها كثيراً ما ترتطم بجدران لا نراها. جيلنا يحمل في ذاكرته نصوصاً من زمنٍ آخر، قرأناها بلهفة، واكتشفنا بها العالم، فصارت جزءاً من وعينا. أما الجيل الجديد، فله مزاج مختلف، وسرعة أخرى، وشفرات لا نتقنها.
هل يكفي أن نحمّله القيم التي آمنّا بها، أم علينا أن نعيد صياغة لغتنا، لا لنرضيه، بل لنتواصل حقّاً معه؟
أسئلة فرضتها عليّ قراءات متفرقة هذا اليوم، وجلسة حوار صريحة عن أزمة الخطاب اليساري وغيابه عن أجيال يُفترض أن تكون امتداداً، فإذا بها تبدو كما لو كانت قادمة من كوكب اخر.
استوقفتني عبارة كتبها الشاعر أحمد عبد الحسين، تقول:
(فما يُكتب اليوم يستهلكه أبناء اليوم، أما الغد فله نصوص جديدة ومستهلكون جدد.)
وهي إشارة لافتة إلى التحول نحو ثقافة استهلاكية لا تتسم بالعمق، كما كانت نصوص الأمس التي شكّلت وعينا، حين قرأناها بشغف لا باعتبارها تسلية، بل بوصفها نوافذ على العالم والمعنى.
أما الشاعر جبار المشهداني، فقد فجّر قلقاً وجوديّاً بسؤاله:
)هل هناك تغييرات فسيولوجية تعرّض لها الجيل الجديد، دون أن يشعر هو، أو نحن جيل الآباء؟(.
سؤال يبدو ساخراً، لكنه يكشف عمق الفجوة بين الأجيال، لا على مستوى الأدوات فقط، بل في عمق التلقّي ومفاتيح الفهم.
هذه الملاحظات لم تكن تمريناً في الثقافة، بل امتداداً لما دار في اجتماع فكري حول الحراك اليساري. تحدّث أحد الحاضرين بألم عن جهل اعداد من طلاب العلوم السياسية، بل حتى بعض طلبة الدراسات العليا منهم، بأعلام الفكر اليساري، وعن ضعف المعرفة بالاستقطابات والتجارب التاريخية التي شكّلت خارطة هذا التيار. وتوالت المداخلات لتخلص إلى نتيجة واضحة:
علينا أن نُبسط خطابنا، دون أن نسقط في التبسيط. فالخطاب اليساري لا يحقق شيئاً إن لم يعِ الجيل الشاب لغته، وإن لم يجد نفسه فيه.
بطبيعة الحال، لا تفي هذه السطور بتشريح المزاج الثقافي والاستهلاكي والمعرفي الذي يطبع سلوك كثيرٍ من الشباب اليوم، ولا يمكن الإحاطة هنا لا بأسبابه ولا باتجاهاته.
لكن ما لا يمكن إنكاره، أن الحراك الفكري والسياسي اليساري، ما لم يغيّر لغته وأدواته، فسيُهزَم أمام جيلٍ لا يسمعه.
العالم تغيّر، ولم يعُد الخطاب الذي نُعبّر به عن مفاهيمنا كافياً لبناء الجسور. ما لم نُتقن لغة الزمن الجديد، فلن يصل صوت الحق مهما كان نقياً.
علينا كل يوم أن نعيد التفكير، لا لنتراجع، بل لنجد طريقا إلى الأمام.