بات من الصعب احصاء أعداد الحرائق، والانهيارات، وسرقات المال العام، وفضائح التزوير وغيرها من الموبقات، التي عصفت بالعراق منذ التغيير ولا تزال حتى اليوم. فالكوارث تتوالى بوتيرة تفوق قدرة الناس على متابعتها ومن ثم استيعابها، وكأننا أمام تطبيع للفاجعة. فهي تُستهلك في الإعلام، ثم تُطوى سريعاً بلا حساب، بعد استغفال المواطنين بتشكيل "لجنة تحقيق"، لتُدفن وتنسى وسط ضجيج كارثة جديدة أشد منها.
وسواء كانت حرائق مروّعة، أو فضائح فساد مدوّية، أو انهيارات بنيوية في مؤسسات الدولة، فإن ما يجمعها ليس حجمها فحسب، بل ايضا نمط تكرارها ومرورها من دون مساءلة. حتى تحوّلت الفاجعة إلى مشهد مألوف، وأصبحت الدولة عاجزة حتى عن أداء وظائفها الأساسية: حماية أرواح الناس، وتأمين السلامة، وتقديم أبسط الخدمات.
وعندما نغوص في أسباب هذا الانهيار المستمر، نصطدم بجذر واحد: الفساد السياسي. الفساد لا بوصفه انحرافاً فردياً، بل كبنية حاكمة، وآلية لإنتاج السلطة وإعادة إنتاجها. وهو الفساد الذي لا ينهب المال فقط، بل يشرعن النهب، ويهمّش الكفاءات، ويُفرغ مؤسسات الدولة من معناها، ويكرّس سياق الإفلات من العقاب. إنه الفساد الذي يجعل الكارثة بلا فاعل، والفجيعة بلا مسؤول، والحريق بلا متّهم. فلا أحد يُحاسَب، ولا أحد يُعاقَب، ولا أحد يستقيل.
نتذكر .. ثم ننسى. نتذكر حريق الكرادة الذي التهم أكثر من 300 شاب وطفل في لحظة خاطفة، ونتذكر غرق عبّارة الموصل بنسائها وأطفالها في نهر الإهمال، وعبّارة الجادرية، وحرائق الوزارات، لا سيما تلك التي استُخدمت لطمس سجلات المشاريع الوهمية، وحريق مستشفى ابن الخطيب الذي التهم الأطفال الخدج في حاضناتهم، وغيرها وغيرها، ثم حريق الهايبر ماركت الأخير في الكوت. نتذكرها وسرعان ما ننساها. لأن المنظومة لا تسمح بإدامة الذاكرة حيّة، ولا ببلورة حكم العدالة. فالتناسي هنا ليس فعلاً بريئاً، بل أداة يستخدمها أهل السلطة لطمس الجريمة، وإنهاك الضحايا، وتدوير المأساة بدلاً من تفكيك أسبابها.
لقد أصبحنا أمام ما يمكن تسميته بسياسات التدمير غير المُعلن، حيث تتحوّل الدولة إلى خطر على ناسها لا إلى ملاذ لهم. فالإنسان في هذا النظام ليس أولوية، بل كُلفة جانبية.
والأدهى من النسيان، هو التطبيع مع الإفلات من العقاب. فقبلها كانت صفقة جهاز كشف المتفجرات المزوّر، التي تسببت في قُتل المئات، وربما الآلاف، من الأبرياء! فهل حوسب سوى ضابط واحد؟ وهل عزل وزير او وكيل وزارة؟ ومن يومها أُعطي الضوء الأخضر للفساد، وليصبح ذلك قانوناً غير مكتوب، ومبدأ حاكماً في ما سُمّي زوراً "العراق الجديد". ولهذا فان "سرقة القرن" لم تُنس وحسب، بل ان منفذها الأساسي شكل - كما يقال - قائمة انتخابية!
إن الادّعاء بأن هذه الفواجع ستتوقف من تلقاء نفسها، أو أن إصلاحاً ما سيأتي من داخل النظام، هو وهم سياسي. فما دامت الطغمة نفسها تحكم، والفساد ذاته يتجذّر، فلا أمل في مشهد مختلف. والكارثة المقبلة ليست احتمالاً، بل نتيجة حتمية في معادلة لم تتغير:
الفساد + الطائفية + التملّص من الحساب + الإهمال + شعب منهك = كارثة قادمة.
نحن لا نعيش في عصر أخطاء، بل في نظام يأتي بالكارثة كمنتج رسمي، ويعفي مرتكبيها من الحساب، ويُربّي الأجيال على كون نهب المال العام، أو الموت حرقاً، أو غرقاً أو اختناقًا.. قدرا لا يُسأل أحد عنه.
لذا فإن الخلاص لا يكون بمناشدة المسؤولين، ولا بإصلاح الفاسدين، بل بتغيير بنية النظام، الذي جعل من الحرائق سياسة، ومن الفواجع ثمار حكم.
المصدر: طريق الشعب