الدولة(X) التي بلا تاريخ
بقلم : لطفية الدليمي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

تابعتُ من غير تدبير مسبّق حديثَ كويتيّ يفرط في الظهور على الفضائيات. أعني به (الدكتور فهد الشليمي) الذي قال في مقطع فيديو له أنّ العراق صنيعة بريطانية تأسّست عام 1920، وأنّ الكويت تأسّست أواخر القرن السابع عشر. ربّما يكون ذكر عام 1682 كسنة تأسيسية للكويت.

لا تعنيني مثلُ هذه الأقاويل والإدّعاءات سواءٌ جاءت من الجانب العراقي أو الكويتي. نعرف أنّ لغة الخطاب الشعبوي والتأزيمي هي السائدة وإنْ تغلّفت أحياناً ببعض الحلوى البروتوكولية الكاذبة. إنّها لغة مزايدات وتنابز سياسي يريد كلّ طرف منها إثبات أحقية له كيفما كانت الوسائل التي يتبعها. واضحٌ أنّ خطاب الشليمي يندرجُ تحت هذا التصنيف. هو يريد القول بحداثة الدولة العراقية وأسبقية الوجود الكياني الكويتي عليها. غايتي من هذه المقالة هي تفكيك هذه السردية المتهافتة، ولن أعير أيّ اهتمام للغة التنابز السياسي العقيم.

نعم، العراق صناعة بريطانية. وهل ثمّة دولة في العالم ليست صنيعة بشرية؟ . ليست مثلبةً أن يكون العراق صناعة بريطانية. أمريكا ذاتها: ألم تكن مستعمرة بريطانية؟ الأساس العقلاني في السياسة هو الإعتراف بأنّها نتاجُ معادلات القوى الستراتيجية الفاعلة على الأرض لا تلك الرغبوية أو المتخيّلة. الإمبراطورية البريطانية كانت تحكمُ نصف العالم، ومن الطبيعي والبديهي للغاية أن تتحكّم بترسيم خرائط العالم. الكويت أيضاً هي صناعة بريطانية مع فارق كونها مشيخة صغيرة أراد منها البريطانيون أن لا تتركّز حقول النفط العملاقة في بلد واحد كالعراق فعمدوا إلى توزيعها بين العراق وإيران والمشيخات الخليجية التي تطوّرت لاحقاً إلى الترسيمة السياسية المعروفة.

لكنْ دعونا من النفط واشتراطاته. لنفترضْ أنّ الكويت تأسّست قبل العراق بثلاثمائة سنة كما يزعم الشليمي، وما أيسر ما يمكن أن يزعمه المرء وبخاصة في التواريخ والوقائع. مرّة سمعتُ من كويتي آخر أنّ الكويت أحتلّت منطقة جنوب إيران قبل سنوات بعيدة لا أذكرها بالضبط. نفهم من كلام الشليمي أنّ الكويت تأسّست قبل نشوء الإتحاد الأمريكي وكتابة بيان الإستقلال عام 1776. هل يمكن المقارنة بين الكويت وأمريكا؟ ما الذي قدّمته أسبقية التأسيس التاريخية للكويت على إفتراض صحتها المزعومة؟ وبالعودة إلى العراق يعترف الكويتيون والخليجيون أنّه كان دولة فيها الكثير من معالم الرسوخ والرصانة في العهد الملكي، وكانوا كثيراً ما يرسلون أبناءهم للتعليم ويزورون العراق طلبا للعلاج فيه فضلاً عن قدراته الإقتصادية الهائلة والمبشّرة -وبخاصة عقب تأسيس مجلس الإعمار- بالمقارنة مع اقتصادياتهم الهشّة.

من الأفضل والأكثر جدوى للجميع أن نتخلّى عن خطاب الأسبقية التاريخية وما ترتّبه من امتيازات مفترضة. هذه أخدوعة مميتة وفخّ قاتل. كم هو عمرُ سنغافورة التي تفوقت اقتصاديا وتقنيا على دول آسيا مجتمعة؟ يبدو كلٌّ من العراق والكويت معاً تجربة فاشلة مقارنة معها. يجب أن لا نخجل من الحقيقة الواضحة: بدأ العراق بدايات واعدة لدولة مبشّرة بتجربة سياسية متميّزة في منطقة الشرق الأوسط، ثمّ انتهى دولة فاشلة بفعل سياسات غبية وقادة توزّعوا بين الرعونة السياسية وخيانة الإلزامات الوطنية. نحن والكويت نتشارك كوننا طفيليين نعتاشُ على الريع النفطي الذي يشجّعُ على الفساد وخلق شبكة علاقات زبائنية. فضيلة الحكّام الكويتيين (والخليجيين بعامّة) أنّهم حافظوا على دماء أبناء شعوبهم ولم يسفكوها في مغامرات صبيانية، وأنّك كنت تشمّ رائحة النفط في شوارعهم وعمائرهم. قد نختلف في شكل النموذج التنموي الإقتصادي الذي إتّبعته الكويت؛ لكنْ في كلّ الأحوال هذا أفضل من تبديد المال في محرقة الموت التي تأكل الأنفس والمال معاً.

عُرِفَت الكويت تاريخياً بتجربتها البرلمانية غير المسبوقة في بلدان الخليج، وبسياستها الثقافية التي تخالطها نكهة ليبرالية معقولة تُعدُّ متقدّمة في البيئة الخليجية والعربية، وكانت مجلّة (العربي) تمثيلاً لهذه السياسة منذ أواخر خمسينات القرن العشرين، ثمّ أعقبتها سلسلة (عالم المعرفة) الكويتية الشهرية. ماذا حصل اليوم؟ حتى هذه النافذة التي يتنسّم منها المرء بعض نسائم الحريّة الثقافية تمّ التضييق عليها اليوم. مَعارض الكتاب في الكويت صارت مختبرات لمنع كثير من الكتب وحظرها بفعل سياسات كنّا سنراها في عداد الديستوبيات التي لا يتخيلها المرء لو سمعنا عنها في الستينيات أو السبعينيات من القرن الماضي. مؤشّرات التنمية تخبرنا أنّ الأداء الإقتصادي للكويت هو الأسوأ بين بلدان الخليج.

الخطاب الشعبوي الذي يتعكّز على الماضي لا يختلف نوعياً عند كثرة من العراقيين بالمقارنة مع الكويتيين. في مناسبة وبغير مناسبة تراه يقول نحنُ أحفاد حضارة عمرها أربعة آلاف عام او سبعة آلاف عام!!. هل تساءل هؤلاء: هل نحن أحفاد حقيقيون للسومريين والبابليين وسواهم من الحضارات التي سادت في العراق؟ وقبل هذا هل نستحق أنّ نكون استمرارية حضارية لهم؟ ألم نفكّرْ مرّة أنّنا في قطيعة حضارية صارخة معهم؟ ألا نخجلُ من أنفسنا أن يكون لهؤلاء شواهد في معظم متاحف العالم ونحن لا مساهمة لنا في عالمنا المعاصر بل كرسّنا العراق كدولة فاشلة؟ هذا هو التوصيف الحالي للعراق من غير تحسينات لفظية: دولة فاشلة لها حضارة عمرها سبعة آلاف عام!!. من يقبل هذا؟ الخائن والكاره للعراق وحدهما سيقبلان، وما أكثر خونة العراق وكارهيه!!.

لنفترضْ أنّ إعلاناً ظهر في الصحف العالمية يقول أنّ دولة بعنوان (X) تأسست حديثاً وتطلب مهاجرين ليكونوا مواطنين متساوين فيها بميزات متفوقة على جميع الأصعدة: السياسية والإقتصادية والثقافية والتعليمية والصحية، والشرط الوحيد هو أن يحوز المهاجر لهذه الدولة قدرات وخبرات علمية وتقنية متقدّمة. ألن يتهافت عليها البشر الذين ضجروا من بؤسهم في بلدانهم؟ هل سيسأل أحدهم عن تاريخها؟ ما لي والتاريخ؟ التاريخ في أحد منظوراته عبءٌ على الحاضر والمستقبل وليس سلّة امتيازات.

أفكّرُ كثيراً في إعلان شركة ميتا (التي ينتمي لها الفيسبوك والواتساب،،،) عن توفيرها وظائف برواتب مليونية سعيا منها لإحداث اختراق حاسم في الذكاء الإصطناعي. أحد أوائل الذين وظّفتهم الشركة من عباقرة الهندسة البرمجية شاب منحته 250 مليوناً من الدولارات. ما الذي يمنع أن يرى هذا الرجل شركة ميتا بمثابة دولة له لأنّه يعيشُ في ظلّها. ربما نحنُ على أعتاب الشركة/الدولة بديلاً معقولاً لفكرة الدولة التي نشأت في أوروبا. متى تأسّست شركة فيسبوك؟ عام 2007. هل يتساءل موظفوها عن تاريخها؟ عوائدها المالية السنوية التريليونية تستطيع أن تشتري دولاً تدّعي تاريخاً ضارباً في القدم.

يمكن لكلّ من العراقيين والكويتين أن يتنابزوا ما شاء لهم التنابز؛ لكنّ هذا لن يلغي حقيقة أنّهم طفيليات يعتاشون على سائل أسود ثقيل جادت به البكتريا بفعل الزمن وخيارات الطبيعة، وأنّ عوائد هذا السائل الأسود الثقيل الذي خرّب خرائط السياسة والإقتصاد في بلدانهم ليست سوى رقم بسيط من عوائد شركة واحدة بين شركات تقنية عديدة هي أقرب لإمبراطوريات تحكم العالم اليوم ولم تتّكئ على تاريخها الذي لا يمتدّ أكثر من بضعة عقود.

أنت ما تفعله اليوم، لا ما فعله أسلافك الغابرون حتى لو أسّسوا لك دولة مع بداية الكون في الإنفجار الكبير.

  كتب بتأريخ :  الأحد 10-08-2025     عدد القراء :  63       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced