رشدي العامل ، صوت المغني.. ووجع السنين
بقلم : هيفاء عبد الكريم
العودة الى صفحة المقالات

تمرُ هذا العام الذكرى السابعة عشر على رحيل الشاعر والصحفي المبدع رشدي العامل( الجيران : كتب المقال قبل هذا التأريخ وستحل الذكرى العشرون لرحيلة في سبتمبر القادم ) ، الذي أسكت قلبه أنين المرض والألم والمحنة وغربة الروح.

ففي 19 ايلول من عام 1990غيبه الموت ، بعد معاناة مرض ومحنة مريرة في وطنه العراق، الذي حاصرته قيود الظلم والاضطهاد والقمع ، والتي قاومها بسلاح القصيدة والروح الشفافة المفعمة بحب العراق:
أنت باقٍ مكانكُ هذا الوطن
لم تقل ذات يوم( نهاجر)..
لم تقل اننا خائفون
لم تقل اننا راجعون
حين تصحو الضمائر
حين يبدو الوطن
دمعةً في العيون
ولد الشاعر رشدي العامل عام1934 في مدينة (عنة) وسط عائلة فقيرة ، عاش طفولته الاولى متنقلا مع العائلة ، واكمل دراسته الابتدائية والثانوية في المدن القريبة من مدينته، والواقعة على ضفاف الفرات . واصل دراسته في القاهرة عندما كان منفياً عن وطنه العراق ، وبقي فيها حتى ثورة14 تموز 1958 حيث عاد الى الوطن، وواصل مسيرته الأدبية والأعلامية ، مكرساً جهده في خدمة قضاياه الفكرية والادبية،والتي ناضل من اجلها ، عبر سنوات طويلة شهد من خلالها انتفاضات وهبات جماهيرية،حيث مَسَتْ تلك الأحداث ايقاع الألم والمحنة والتحدي في قصائده . ففي شباط عام1963 تعرض للملاحقة ثم السجن في قصر النهاية ، وظل ملاحقا ً حتى اوائل السبعينات، بسبب توجهاته الفكرية، ونشاطه السياسي.
يُعتبر رشدي العامل أحد رموز الشعر في العراق ، حيث بدأ مشواره الأبداعي بعد بروز جيل الرواد ( نازك الملائكة، السياب، والبياتي) وذلك في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، حيث أسهم وبشكل واضح، في تطور الحركة الشعرية المعاصرة في العراق.
لقد جمع رشدي العامل اضداد الحياة، ليصنع منها صورا فنية ظلت تسكن روحه ، فظل يواجه محنته وهو في وطنه ، ليعود الى ينابيعه الأولى وتكوينه ، فظل متمسكا بالهوية في هاجس حسه المرهف، حيث تتفجر روافد لا حدود لها لتصب في نهر روحه، ذلك النهر الذي ظل يغني عند ضفافه حتى اخر نفس في حياته.
ان تجربة رشدي العامل تمثل تجانساً فريداً ، ووحدة لاتعرف الشروخ، فهو الصادق حد الألم مع نفسه ومع الآخرين ، لم يجعل من شعره اداة للمساومة ، امام ما يحمله من فكر ، فهو يمتلك روحية عالية في ربط مفردة الشعر باللون، ساعياً الى قيّم جمالية تجسد روحه، وثقافة عميقة تطرح الكثير من الأسئلة ، من بينها الموت ، والغربة عن وطن عاش ومات فيه ، فوجد تلك الفسحة من الحرية ، في غربة اوجعته حد الأعياء.
ان لغة الشعر عند رشدي العامل هي اداة كشف التجربة وبلورتها، واداة الرؤية العميقة التنبؤية ، التي تستكشف الذات والعالم من حولها ، اذ لم يصغِ الا لنداء روحه وانكساراتها المرة ، فكانت قصائده المرهفة ، مترعة بالألم والحسرة ، وبأيمان نادر بالأنسان واحلامه .
لقد كتب احد اصدقائه عنه قائلا:
كلّ مساء
يحلم رشدي بقصيدة
تأخذ شكل حمامة
ترسم ظلاً
يتفيأ فيها الشهداء
رشدي يصحو
يرفع نخباًللشعراء
نخبأ لعيون مدينته
نخباً لعلي
وجفاف تراب حديقته
فيصير سماء
لقد وظف رشدي العامل، كغيره من شعراء عصره التعبير العامي في شعره ، مستعينا بالتراث الذي ظل هاجسا ًفي حياته وأرثاً يعتز به ، اذ لا تخلو احاديثه من الكثير من المصطلحات التراثية التي ترتبط بوجدان الناس وحياتهم اليومية ، فجمع على نحو مبدع بين التراث والحداثة ، وقد اتخذ توظيفه للعامية ، أشكالا متعددة منها استعماله المفردة العامية:
أعرفُ أن القلب يظل
حيث تدور الشمس
ولا يغريه الظل
أعرف ان الزنبقة الحمراء
تظل ترنو للحقل ( وتنطرُ)
قطرة ماء في البستان
فكلمة (تنطرُ) هي كلمة عامية، لكنه وظفها بشكل جميل، كي يعطي القارئ روح القصيدة وابعادها.

رشدي العامل الشاعر والاديب والمبدع، يمتلك ُ حساًً عالياً بالفن والموسيقى، فقد نسج خيوط قصائده الأولى على أنغام بتهوفن، الرحابنة، والمقامات.
عمل في الصحافة ، وابدع فيها فهو رائد من رواد الصحافة اليسارية ، يلتقط الحدث ويصوره بريشة الشاعر والفنان والمبدع ، ليعكس معاناة الطبقة المسحوقة، من ابناء شعبه الذي احبه ، واخلص له ودافع عنه بالكلمة والموقف والرأي الحر.
ألتقيتُ رشدي العامل أول مرة عام 1676، ففي مقر عمله في جريدة( طريق الشعب) كان يتنقل كفراشة نحيلة بين زملائه، في الأقسام والغرف ، تلك كانت عائلته الثانية، التي ينتمي اليها، وبيته الذي يلقي فيه اعبائه وظلاله، ليسمو ويتألق بحب الناس وقضاياهم التي تعيش في وجدانه.
عند زيارتنا له في بيته في خريف 1977 وقف رشدي خلف شباك غرفته المطلة على( حديقة علي) يردد أغنية لفيروز:( ورقهُ الأصفر شهر أيلول..تحت الشبابيك) .. متأملاً الخريف ، مستذكراً بحنين حكاية حب قديم ، حدَثنا عنها فيما بعد .. يتذكر بعذوبة وشاعرية صباه حين كان يافعاً، ويعود بحسرة وألم الينا ، يطالع وجوهنا نحن أحبته الحاضرون، نحيط به بهاجس اوراق شجرأيلول، في مهب ريح ورحيل دون وداعه:
أمسّ كنا أربعة
شاعرّ ظلَ طريقه ُ
كاتبّ يبحث في الظلمة
عن نور الحقيقة
ثالثّ يرسمُ بين الشوك والصبار أزهار حديقة
راهبّ يستلُ أناتً من القيثار
وسط الزوبعة
أمس كنا أربعة
هكذا كنا ،
ولكنا افترقنا،
عند نصف الليل
حدقنا طويلاً وضحكنا
عندما قال لنا الراهب،
اِنا اغنياء،
خبزنا الصبر الآلهي،
ومأوانا العراء،
لم نخن شيئاً ولم نكذب،
ولم نلبس أثواب الرياء،
وأفترقنا..
نغرفُ الضحك وكنا سعداء*.
*(من قصيدة بعنوان أربعة وجوه)

ظلت قصائد رشدي تنضح الماً وحسرة، على وطن يئن تحت وسادة المرض ،هاجسه الوحيد وطنه ُ ولقاء الأحبة معزياً نفسه ُ:
بغداد ُ موعدنا..
وشارع ٌ بصوبِ الكرخِ ينتظرنا...
في ديوانه ( أغانٍ بلا دموع) ومن خلال قصائده صور غربة الروح والوحدة ، حيث بعده عن زوجته، فراحت قصائده تئن بصمت وحسرة، مجسداً غياب المرأة في حياته ، وعبر عنها بصور ،تحمل الكثير من التناقضات، رغم انه كان لايغفل الحديث ابدا ً، عن المرأة ، وعن أمه بالذات ، التي يذكرها كرمز للأمومة وصبر المرأة العراقية ، على تحمل الصعاب والهموم، مشيداًبنضالها واصرارها:

تضربُ في عبائتها الطويلة
ظلَ النجوم بمقلتيها، والمذابحَ والحرائق
مابين هدبيها، واخماص البنادق
ترتجُ فوقَ جبينهاالمضني، وجبهتها النبيلة
في غاب عينيها
في نور عينيها، وتنهشُ في عبائتها الجميلة
والريح في العتمات تسقطُ
كانت الدنيا ذليلة
***
أماه.. في العتماتِِ كان الأصدقاء
يتململونَ، جراح صدركِ في مضاجعهم تغني
في قبضة الأسوار ، كنا نخنقُ الدم والبكاء
بعيون آلاف الرجال، وثم غضب الرجال
شئ اشقُ من الدموع، اذا تغورت النصال
في نورِعينيكِ
أو تمزقَ في أكفهم الذليلة
قلبُ الأمومة، انتِ ادرى،
كانت الدنيا بخيلة ...
كانت رياح الليل تنقلُ في عبائتك الجميلة * *( من قصيدة بعنوان بطاقة الى احدى الامهات)

بهذه المعاني الانسانية الكبيرة ، كانت رحلةُ الشاعر مع قصائده، ومرضه الذي رافقه طويلاً ، فظلَ يتنقلُ بأعيائه وهزاله ومحنته ، من مشفى الى آخر ، يحمل بين جوانحه رسالته كشاعر وانسان .
في أواخر حياته ، وربما قبل ان يفارق الحياة بلحظات ، وجد أحد أصدقاءه ،تحت وسادته قصاصات لقصيدة ( الدكتاتور) ، مع اعداد من صحيفة( طريق الشعب)، الصحيفة التي عمل فيها، حتى آخر يوم وقبل اغلاقها من قبل النظام الفاشي المقبور..
في التاسع عشر من ايلول من عام 1990 ، في ايلول الذي غنى خلف شبابيكه، رحل عنا ( أبو علي) دون أن يروي زهور حديقة ( علي) لتورق وتزهر،تلك الحديقة التي طالما انتظرأن يعود اليها( علي) كي يطمئن قلبه ، بعودة أحبته الذين رحلوا الى المنافي ، فيستعيد جزءاً من عافية الروح المتعبة..
رحل رشدي العامل مسكونا بحب العراق وناسه ، محمولاً على الأكتف بصمت مهيب ، يكسره أنين الأب والابن المفجوع ودموع الأصدقاء ..
رحل ( المغني ) دون قيثارة ، وصوتهُ لازال عذباً ، يلامس قلوبنا بذكريات عزيزة لاتنسى عن شاعر جميل الروح، وانسان ورفيق نادر الخلق والسجايا، أعطىالكثير من روحه ومسيرة حياته ، لوطنه وشعبه الذي أخلص لهما حد النهاية.
وقبل ان يوارى التراب ، قرأ المرحوم علي جواد الطاهر كلمة رثاء أخيرة قائلاً:
ماتَ صوتُ القادمين الى العراق ..
وطني مات المغني...
فهل سنعيدُ حكايات السنين؟؟
أقول لك ايها الراحل، صديقنا الجميل رشدي:
نحنُ نعيدُ حكايات السنين..
وطني لن يموتَ المغني...........


** من دواوين الشاعر:
ـ همسات عشروت 1951 أغاني بلا دموع 1956 عيون بغداد والمطر 1961  للكلمات أبواب وأشرعة 1971 أنتم أولا ؟ هجرة الألوان 1983 حديقة علي 1986 موت مغني ؟ الطريق الحجري( تمت طباعة هذا الديوان بعد وفاته). وقصيدة (الدكتاتور). هناك العديد من القصائد للشاعر لم تنشر بعد .

*هيفاء عبد الكريم *


بعض من قصائد للشاعر العراقي الراحل  رشدي العامل

وحشة
ـــــــ

وحدها في العراء
وشمس الظهيرة
وحدها في فضاء الجزيرة
وحدها المعضلة
وحدها
في المساء
ودائرة مقفلة
ليس من ينتظر
ليس من يعبر الدرب
حتى الحدود الاخيرة
.....................

تـداع
ـــــــــ

وحدي ...اذرع صمت اليل
اشم الارض
اجوس الطرقات المهجورة
هل ابقت قدمانا شبراُ لم تعرفة
فلم شفتاك تغيبان
ويُسدلُ شعرك فوق جبيني
هذي الليلة
لم يقترب الوجة
وتنأى العينان
وترتحلان وتبقى الصورة
وحدي في الطرقات المهجورة

ـتتت

عيناك في الكتاب تومضان
زنبقة ليلية الاوراق
ساقية متعبة
اغنية
بستان
عيناك فوق احرف الكتاب ترقصان
عيناك تملأٌن
كل عيوني
كل ليلي تحجب الاوراق
وعندما يشحب صوتي يضحك الرفاق
......... اة من العشاق

تنبية
ـــــ
انت باقٍ,
مكانك هذا الوطنْ
لم تقل ذاتَ يومٍ نهاجر
لم تقل اننا خائفونْ
لم تقل , ان زاد المسافر
حليةُ الصمتِ
مااكذب الصمتِ’
اذا تستفيقُ الحناجرْ
لم تقل اننا خائفونْ
لم تقل اننا رتجعونْ
حين تصحو الضمائرْ
حين يبدو الوطنْ
دمعةً في العيونْ
انت باقٍ
مكانك هذا الوطنْ
شوكةٌ في يديكَ
عراؤك في البردِ
موتكَ ايُ يموتُ؟
وايُ سيصحو؟
وايُ يقبل هذا الجبينَ المكابرْ
انت باقٍ
خذ الارضَ ملحاً’
خذ الناسَ ملحاً’
ومتْ’ رايةً في جبين الوطنْ
ــــ1974

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 26-01-2010     عدد القراء :  2765       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced