من المقرر أن يلتقي الرئيسان الأمريكي والروسي، دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، في 15 آب الجاري في ولاية ألاسكا الامريكية، وسيكون اللقاء الأول منذ إعادة انتخاب الرئيس الأمريكي. وقد أكد الكرملين ذلك بالفعل. وسيكون الرئيس بوتين اول زعيم روسي يزور الاسكا التي كانت جزء من الأراضي الروسية قبل ان تشتريها الولايات المتحدة من روسيا القيصرية عام 1867.
وسيركز جدول أعمال ترامب وبوتين على تسوية النزاع الأوكراني، على الرغم من أنه من المرجح أيضًا مناقشة قضايا أوسع نطاقًا مثل الاستقرار العالمي، والحد من الأسلحة النووية، والشرق الأوسط، وإيران، والتجارة، والعقوبات. وتم التوصل إلى اتفاق اللقاء إبان محادثات بين المبعوث الأمريكي الخاص ستيف ويتكوف وبوتين في موسكو، والتي وصفها ترامب بأن نتائجها حققت "تقدما كبيراً" ويمثل هذا تحولًا حادا مقارنة بخطاب ترامب شديد اللهجة تجاه بوتين في الأسابيع الأخيرة، ويشير إلى أن دبلوماسية ويتكوف حالت دون أسوأ سيناريو كان يخشاه الكثيرون، يتمثل بتصعيد التوتر بين الولايات المتحدة وروسيا بعد أن منح ترامب موسكو مهلة نهائية في 8 آب لوقف إطلاق النار في أوكرانيا.
ورجح خبير نادي فالداي للشؤون السياسية أندريه كورتونوف وجود تقدم مقبول للطرفين في قضايا التسوية الاوكرانية قد نوقش أثناء مهمة ويتكوف الأخيرة إلى موسكو، وعلاوة على ذلك، تلقى هذا التقدم دعماً أولياً على الأقل من ترامب، ويرى خبراء اخرون بأن القمة قد لا تُسفر عن اتفاق بشأن أوكرانيا إطلاقًا إذا ركز الطرفان على مصادر توتر أخرى في علاقاتهما الثنائية: تجديد معاهدة مراقبة الأسلحة، ومخاطر التصعيد في الشرق الأوسط، وآفاق البرنامج النووي الإيراني. ولكن دون إحراز تقدم في تسوية سلمية، في النزاع الأوكراني سيكون تحقيق النجاح في هذه القضايا صعبًا أيضًا. وأشارت وسائل اعلام غربية الى "ان الرئيس زيلينسكي أعرب عن استيائه من قرار ترامب عقد اجتماع وجهاً لوجه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتن في ألاسكا دون دعوة أوكرانيا للمشاركة". وفيما رحب زعماء أوروبا بجهود واشنطن السلمية اشاروا في بيان مشترك: "إننا نتفق على أن الحل الدبلوماسي يجب أن يحمي المصالح الأمنية الحيوية لأوكرانيا وأوروبا... ولا يمكن إجراء مفاوضات جادة إلا في سياق وقف إطلاق النار أو خفض الأعمال القتالية... ويجب أن يكون خط التماس الحالي نقطة انطلاق للمفاوضات".
والسؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا هذا التغيير المفاجئ في موقف موسكو؟ أحد تفسيرات الصحافة الغربية هو أن بوتين، ولتلافي عقوبات ثانوية قاسية على مستوردي النفط الروسي (بما في ذلك الصين والهند والبرازيل)، أصبح أكثر مرونة، إلا أن سلوكه بعد إنذار ترامب يوحي بعكس ذلك. علاوة على ذلك، لا ينوي بوتين اليوم مغازلة رؤساء الولايات المتحدة وتقديم تنازلات واسعة النطاق، لإدراكه أن السياسة قد تتغير جذريًا مع كل إدارة جديدة.
وبعد ثلاث سنوات من العقوبات المؤلمة، ربما تعتقد موسكو أن الغرب لم يعد يملك أية أدوات تُذكر لتغيير الخطط الاستراتيجية الروسية بشكل جذري في صراع تعتبره وجوديًا. وربما يستعد ترامب لتقديم تنازلات أكبر مما كان يُعتقد سابقًا. وهذا يفسر لماذا اعتبرت موسكو، بعد زيارة ويتكوف، المقترحات الأمريكية الجديدة "مقبولة". وقد يكون تحوّل ترامب مرتبطًا بفشل التهديدات بفرض رسوم جمركية على الهند والصين. فقد رفضت الدولتان بشدة فرض رسوم جمركية بنسبة 100% على النفط الروسي، معتبرتين إياها انتهاكًا لحقوقهما التجارية السيادية. قد تُسبب العقوبات بالفعل خسائر اقتصادية قصيرة الأجل، لكن أيًا من الدولتين غير مستعد للتنازل عن مبادئه الأساسية. علاوة على ذلك، تحتفظ الصين بنفوذ قوي وقد ترد، كما فعلت في وقت سابق من هذا العام عندما قيدت بكين صادرات المعادن الأرضية النادرة، وهي ضرورية للصناعة الأمريكية والمجمع الصناعي العسكري.
ويُهدد تزامن ضغط ترامب على الصين والهند من الناحية الجيوسياسية بتقريبهما من بعضهما. وكانت واشنطن قد غازلت الهند طوال عقود، ولاسيما في السنوات الأخيرة إبان عهد رئيس الوزراء مودي، لتكون بمثابة ثقل موازن للصين. لكنها تُخاطر الآن بانتكاسة استراتيجية كبيرة إذا وجد العملاقان الآسيويان قضية مشتركة في مواجهة الولايات المتحدة. وقد بدأت العواقب تظهر بالفعل: ففي ظل تصاعد التوترات مع الولايات المتحدة، يخطط مودي لأول زيارة له للصين منذ سبع سنوات.
والأهم من ذلك، أن كلًا من بكين ودلهي تتجهان الآن نحو موسكو، كما يتضح من اللقاء الذي اُجراه مستشار الأمن القومي لمودي مع بوتين مؤخرا عقب إعلان الولايات المتحدة عن رفع الرسوم الجمركية. ولتتويج هذا التحول الجيوسياسي، اقترح الرئيس البرازيلي "لولا" أن تناقش دول بريكس موقفًا مشتركًا بشأن الرسوم الجمركية الأمريكية. في هذه المعضلة، قد يكون التعاون مع موسكو سبيل ترامب للخروج من مأزقه الذي أوقع نفسه فيه: فالالتزام بتهديداته ستكون له عواقب اقتصادية وخيمة وإعادة ترتيبات جيوسياسية، بما في ذلك إبعاد الهند عن واشنطن وحشد دعم دول بريكس، بينما سيُقوّض التخلي عن الرسوم الجمركية أو الإنذار النهائي بشأن أوكرانيا مصداقيته بشكل خطير.
ولكي يوافق بوتين على تعاون حقيقي بدلاً من مجرد المماطلة، سيتعين على ترامب تلبية المطالب العسكرية الرئيسية لروسيا: الاعتراف الرسمي بمكاسبها في ساحات المعارك، وضمانات لحياد أوكرانيا (مع استبعاد انضمامها إلى حلف الناتو رفضًا قاطعًا)، وخفض حجم الجيش الأوكراني إلى مستوى لا تُشكّل فيه موسكو تهديدًا.
ويُشير تصريح وزير الخارجية ماركو روبيو الأخير، الذي وصف فيه "قضايا الأراضي" بأنها جوهر محادثات السلام، إلى انفتاح واشنطن على الحوار مع موسكو. تُصرّ روسيا على الحفاظ بسيطرتها على مناطق دونباس والقرم الأربع، والاعتراف رسميًا بسيادتها عليها. من ناحية أخرى، كانت الولايات المتحدة، في السابق، مستعدة لتقديم تنازلات بشأن شبه جزيرة القرم فقط، تاركةً وضع دونباس دون حل. ولم يكشف روبيو عن طبيعة التنازلات الإقليمية التي يُمكن النظر فيها.
وبالطبع، تُقابل أوكرانيا - بدعمٍ من أوروبا - هذه المطالب باستياء بالغ وترفضها رفضًا بصورة قاطعة. ومع ذلك، قد تُحاول واشنطن "إخضاع" كييف، مُستغلةً تدهور وضعها في ساحة المعركة وضعف زيلينسكي السياسي: لا سيما بعد قراره بتصفية وكالات مكافحة الفساد الرائدة، التي اشير الى انها محاولة للتستر على مقاربيه المتورطين بالفساد، ولكنه سرعان ما أُلغى قراره بضغطٍ من الغرب.
إحدى التنازلات المُحتملة هي تبادلٌ للأراضي: انسحاب القوات الروسية من جزءٍ من الأراضي المُحتلة مُقابل تسليمٍ رسميٍّ للجزء غير المُسيطر عليه من مناطق دونباس الأربع. في المُقابل، ستتخلى موسكو عن نهجها الانتقائي وتوافق على وقفٍ شاملٍ لإطلاق النار، والاحتمال الاخر موافقة كييف على بقاء الدونباس والقرم تحت السيادة الروسية لمدة 45/90 عاما وبعدها العودة لمناقشته تبعيتها من جديد.