في صيف العام 1976، هجر زياد عائلته للعيش في المنطقة الغربية (معقل اليسار والحركة الوطنية) في إحتجاجا على السياسة اليمينية (المسيحية المارونية)، وليبدأ تقديم برنامج اذاعي حمل عنوان «بعدنا طيبين.. قول الله» مع جان شمعون في الاذاعة اللبنانية.
في العام ذاته يكتب الشهيد د. حسين مروّة (1908-1987) وهو مفكر يساري لبناني وعربي بارز، وترأس تحرير مجلة "الطريق" المنارة الفكرية والثقافية من 1966 حتى اغتياله بمنزله في شباط 1987، مقالة في صحيفة "النداء" (عدد 18-11-1976) حملت عنوان "الحرب والفن والذاكرة و.. زياد الرحباني" جاء في قسمها الأخير:
يمرق زياد كالسهم
«زياد الرحباني يمرق إلينا هذه اللحظة كالسهم خلال زحام الظاهرات المرئية بالعين المباشرة، لا لكونه ظاهرةً مباشرةً لهذه الحرب، ولا لكون فنّه الذي أنتجته هذه الحرب شكلاً مباشرًا لنتاجها الفني. فليس من طبيعة الفن الحقيقي، ولا من طبيعة فنّه، بالخصوص أن يكشف كل "احتمالاته" حتى ما يكون منها وليد الحدث التاريخي المباشر، وإلا فهو "شيء" آخر غير الفن: شيء "يحترق" بوهج الحرب كالهشيم، ساعةً وينطفئ... حتى رماده ينطفئ ويموت في لحظة. وإنما المسألة هنا هي أن زياد الرحباني - وهذا يعني جان شمعون أيضا كجزء عضوي في الظاهرة - لم يدخل "عملية" الحدث التاريخي اللبناني بعلاقة العفوية، وهي علاقة خارجيّة هشة في الغالب، أو هي علاقة انفعال قد يكون هامشياً، وقد يكون أصيلاً، ولكنه - بأي حال - لا يتخطى نفسه إلى علاقة التفاعل المتبادل، إلا إذا تخطّى العفويّة نفسها».
يواصل صاحب الكتاب الأساسي في مجاله "الحركات المادية في الفسلفة العربية الإسلامية"، د. حسين مروّة مقالته:
"زیاد دخل "عمليّة" الحدث اللبناني بعلاقة الالتحام الفريدة من نوعها في ظاهرات الفن اللبناني. إن فرادة هذه العلاقة تتمظهر بوتيرة سرعتها الزمنية ووتيرة فاعليتها الدينامية. ولكن أساسها -وهنا جوهر المسألة- هو كونها علاقة التحام فكري وجداني معًا، ذات جلدين متلازمين متكاملين: جلد في عمق الحدث التاريخي نفسه، أي عمق قضيته بوجهيها الوطني والاجتماعي... وجلد في عمق الجماهير صاحبة هذه القضية».
نبوءة للمستقبل من الكبير مروّة
وبما يشبه النبوءة يتحدث الراحل مروة عن قسوة وقائع سيواجهها زياد الرحباني ويعبّر عنها موسيقياً ومسرحيا بعد سنوات طويلة وبالذات عن سيادة القيم الاستهلاكية في مجتمعه ومجتمعات المنطقة بل العالم كله وخفة الوعي نتيجة الحضور القوي لـ « الكوسموبوليتية» التي ستصبح ممراً لـ «السوقية»:
"إن علاقة الالتحام المتجذرة، هكذا بعمقيها هذين قد أعطت خصوصية القدرة الفنية إمكانية الخروج من إطار "الفردية" إلى إطار الظاهرة بكل ما للظاهرة من جمالية العموم والشمولية. من هنا صح أن نرى إلى برنامج "بعدنا طيبين... قول الله" كظاهرة فنّيّةٍ فريدة أنتجتها الحرب اللبنانية، فاتخذت كغيرها من ظاهرات هذه الحرب شكلها التاريخي، أي اختزالها لحركة التاريخ، أي استعدادها المشحون بقوة "الضرورة"، للاندفاع بتاريخ الفن في لبنان إلى صيرورة نوعية تنفض عنه كل غبار التفاهة والسخف والميوعة، وتستأصل منه علة "السوقية" بأعراضها الكوسموبوليتية الخبيثة».
ذاكرة الجراح
ويلامس المفكر الراحل حسين مروّة شيئاً من الموقف النقدي أبرزه زياد مبكراً للوقائع اللبنانية بعد الحرب الأهلية:
«أما ذاكرة الشعب - يا زياد - فهذه عقدة المشكلة هنا. هذا صحيح. ولكن ألا ترى أنَّ "ذاكرة" جديدة ولدت في جسد الشعب، أي في جراحه، وفي البصمات العميقة الملتهبة التي حفرتها هذه الحرب في حجيرات دمه، لتتحول خزانات وعي يقظ، مرهف، حاضر دائما في تلك الظاهرات الجديدة بمضمونها التاريخي، أي بزخمها التحولي؟
هذه الذاكرة الجديدة ستبقى تحتضن تلك العشيات، إذ كانت جماهير شعبنا الوطنية تستجمع حواسها ومذاقها ومشاعرها بانتظار النبرة المتميزة بالصفاء والعمق والصدق، طالعة من المذياع تهدر: "بعدنا طيبين.. قول الله." ستبقى تحتضنها وعدًا بولادات جديدة للظاهرة كيما تبقى لها خصيصة الظاهرة».
ما تتضمنه مقالة أستاذنا الشهيد الحي، د. حسين مروّة، من ملاحظات عميقة، لا عن الظاهرة "الفتية" (حينها 1976) زياد الرحباني التي نستعيد بعض محطاتها هذه الإيام مع رحيله القاسي، بل عن علاقة الفن بالمجتمع والتعبير بعمق عن حركته وأزماته، مما يشكل مبحثاً جوهرياً عن فرادة مفكر وعظمته، مفكر مثل الدكتور مروّة على درجة من الحكمة الجريئة بانتقاله، على أرض العراق، من الدراسة الدينية المرجعية في النجف إلى الماركسية وفكرها النقدي الحي.