الإدراك الفعلي لدور إنسان ما في المجتمع الذي ينشط فيه لا يمكن تحقيقه من خلال رغبة جامحة وملحة للوصول الى هذا الدور، ولا من خلال وَهمٍ يداعب الفكر بين الحين والآخر، وحتى ليس من خلال الإطراء الذي قد يسمعه من هذا وذاك ضمن مجتمعه بالذات، إذ ان هذا الإطراء قد يكون ذا مقاصد مجهولة الهدف.
وعلى هذا الأساس، ومن خلال سعي الفرد، تسعى أغلب الأمم والشعوب الى سلوك كل ما يمكن ان يساعدها على احتلال موقع ما في موكب المسيرة العالمية، تحظى من خلاله للمساهمة في دفع هذه المسيرة او استثمار ما تحقق فيها والتجاوب معها في مفردات حياتها اليومية، على أمل ان تظل مواكبة لهذه المسيرة غير متخلفة عنها، وقد تسعى حتى في دفعها نحو المزيد.
هذا الاستعداد للتواصل مع الحاضر الجديد والنظر من خلاله الى القادم الذي قد يشير الى حداثة أكثر واتخاذ كل ما يمكن اتخاذه لاستيعابه والتفاعل معه، يخلق لدى هذه الأمم والشعوب المساهمة في المسيرة، قابلية تتطور مع الزمن، تعمل على توسيع مداراتها الفكرية وتحديث مقوماتها الاجتماعية، دون ان تتجنى او تتنكر لمراحل التخلف التي مرت بها والتي يمكنها ان تستوعبها كإرث ساهم في خلق مقوماتها يوماً ما دون ان يشكل هدفاً لما تريد ان تقوم عليه اليوم.
فِهم فلسفة الحياة هذه انتشرت، بهذه الوتيرة او تلك، لدى كثير من الأمم، خاصة تلك التي عاشت مآسي حروب كثيرة ساهمت في زيادة الإلحاح على الخروج من الازمات وتبني أساليب جديدة أخرى لمواصلة الحياة بنهج آخر.
إلا ان عالمنا الإسلامي، العربي وغير العربي منه، خالف نظرة الأمم والشعوب الأخرى في فهم فلسفة الحياة هذه واستنبط ما اعتقده مناسباً له وانبرى فقهاؤه ومفسرو أحلامه يبررون كل ما خالفوا اهل الأرض عليه بإن لنا مكانة خاصة في هذه الدنيا لا تليق بنا التقليد او التشبه بالآخرين لا لشيء ...فقط لأننا مسلمون. فجعلونا نعيش حياة المكابرة التي اباحت لنا مخالفتنا لأمم وشعوب الأرض والتنكر لأساليب حياتها والاستهزاء بمقومات الحداثة التي ابتكرتها عبر أجيال وأجيال لا نريد لها ان تمس كياننا، فنحن الأعلون ونبقى الأعلون ... لأننا مسلمون. وقالوا لنا ايضاً:
نحن لم نُخلق من اجل أي شيء آخر غير عبادة الله الذي اختارنا وحدنا لعبادته، فنحن خير امة أٌخرجت للناس، فللعبادة نحيا وعليها نموت ونبقى نحن الأعلون ... لأننا مسلمون.
اختراعاتهم واكتشافاتهم لا تعنينا، بل ان الله الذي نعبده، سخر كل ما يعملون ويكتشفون ويخترعون لخدمتنا من اجل ان لا نتوانى في عبادتنا ولنبقى نحن الأعلون ...لأننا مسلمون.
لا يهمنا ان نكون فقراء في هذه الحياة الفانية، اذ اننا اغنياء في الحياة الأبدية حيث جنات النعيم وحور العين وانهار الخمر واللبن والعسل، كلها لنا نحن فقط فنحن الأعلون ... لأننا مسلمون.
لا بأس ان يصنعوا لنا ما نلبس وينتجوا لنا ما نأكل، فهم خُلقوا ليخدمونا ويوفروا لنا سبل الحياة المريحة في هذه الدنيا الفانية، فعبادة الله التي اوكلنا إياها اعلى مرتبة عنده من كل ما يزرعون ويحصدون ويكتشفون ويخترعون، وبذلك جعلنا الأعلون ... لأننا مسلمون.
صدع الكفار رؤوسنا بأنواع الأمراض وعلاجاتها التي ابتكرتها مختبراتهم، وامتلأت بها أسواق تجارنا التي أتوا بها، ونحن لسنا بحاجة لها، فطبنا النبوي الذي لم يترك مرضاً إلا وعالجه أحسن وأشفى وأرقى علاج، فأغنانا عن مستشفياتهم التي لا مساجد فيها للصلاة يُذكر فيها اسم الله الذي يرافق كل علاجاتنا بدءً بالحجامة ومروراً ببول البعير وانتهاءً بالحبة السوداء، فنحن الأعلون في كل شيء ... لأننا مسلمون.
نحن الأعلون لأن الكفار لم يستطيعوا الاستمرار بالقفز على ما اثبتناه بالأمس ونثبته اليوم من خلال نصوصنا المقدسة حول مجريات الكون ومقوماته، من ثبات الأرض وشكلها المسطح ومركزيتها في الكون الذي يدور حولها، وغياب الشمس في عين حمأة، وتوجيه الملائكة للغيوم وضربها بالأسواط التي تسبب الرعد، وزينة النجوم في السماء، والسفر على البغال والحمير لا على طائراتهم التي تتساقط حتى ونحن فيها فلا يمسنا السوء فنحن الأعلون ارضاً وسماءً ... لأننا مسلمون.
طالما يتحدثون عن التقدم والحداثة والتوجه نحو المجتمع المدني وكل ما ابتكروه من نظريات وما جاءوا به من أفكار يسعون من خلالها الى جعلنا ننسى تراثنا الزاهي واجدادنا العظام الذي لا نريد ان نقتفي سوى آثارهم ولا نعمل إلا بنهجهم فليس من شيمتنا النظر الى الأمام وترك ما يأمرنا به اسلافنا الذي يوجهوننا اليوم من جنات النعيم كما وجهونا بالأمس وهم في مساجدهم سُجَدٌ رُكوع، فبهم فقط سنبقى الأعلون ... لأننا مسلمون.
مجتمعاتهم مليئة بالفساد بكل انواعه التي جنبنا الله شرها وحمانا من سيئات تبعاتها. فخلو مجتمعاتنا الإسلامية من كل أنواع الفساد المالي والإداري والخُلقي يخضع لتعاليم ديننا الذي اوصانا بإنزال اشد العقوبات بالفاسدين كما جاء في نصوصنا "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم"(المائدة 33)، فهل رأيتم او سمعتم بتنفيذ هذه العقوبة السماوية على ارض المسلمين؟ وهذا دليل ساطع على ان مجتمعاتنا تخلوا من الفاسدين واعمالهم، فبذلك جعلنا الله الأعلون ...لأننا مسلمون.
يغمرنا العجب وتعلونا الدهشة حينما نرى تفشي الغش والخداع والنميمة في مجتمعاتهم الكافرة التي يريدون نقلها الى مجتمعاتنا الصالحة بحجة الحداثة والتطور الذي لم ينقذهم من هذه المآسي، في الوقت الذي التزمت مجتمعاتنا الإسلامية بالمبدأ الإسلامي القويم " من غشنا ليس منا " فجعلنا الله الأعلون ... لأننا مسلمون.
خُلو مجتمعاتنا الإسلامية من السرقات بكل أنواعها يبرهن بما لا شك فيه بأن العقوبات التي وضعها ديننا والتي نلتزم بها بعقوبة السارق بقطع اليد خلقت من مجتمعاتنا الإسلامية، التي لم تُطبق فيها هذه العقوبة إلا بنفر لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد الواحدة، مجتمعات آهلة بالأمن والأمان، فنحن الأعلون ... لأننا مسلمون.
نحمد الله صباحاً ومساءً لأننا انتبهنا قبل فوات الأوان للآراء الهدامة التي ارادت لمجتمعاتنا الشذوذ حينما عمل مريدوها على بث افكارها الغريبة بيننا فتخلصنا منها بالتخلص بحزم من مريديها الكفرة كالفارابي وابن سينا وابن رشد والخوارزمي والعشرات غيرهم قديماً ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا وطه حسين وغيرهم العشرات ايضاً حديثاً ، والتزمنا بما جاء به فقهاؤنا وعلماؤنا الأفذاذ الأوائل ابن تيمية ومحمد عبد الوهاب ، وعلماء الحداثة حسن البنا وسيد قطب والقرضاوي وغيرهم الذين وضعونا في موقع الأعلون بين المجتمعات ... لأننا مسلمون.
لأننا الأعلون وليس لنا إلا أن نبقى الأعلون لأننا مسلمون ، فقد اقتفينا آثار اسلافنا العظام الذين جاهدوا بارضهم واهلهم وديارهم فهاجروا لنشر الدين واحكام الشريعة ومارسوا جهاد الهجرة كوسيلة لذلك ، وبما اننا أٌمرنا ان نسير خلف السلف، فقد انتهجنا سبيل جهاد اللجوء فتركنا ارضنا ارض الإسلام ، ارض الرفاه والسعادة والأمان ، لنملأ ارض الكفر برجالنا ونسائنا واطفالنا ونجعلهم يدفعون الجزية لنا عن يد وهم صاغرون بما يقدمونه لنا من خدمات وتلبية ما نحتاج اليه في هذه الدنيا الفانية طيلة الفترة التي سيتحقق فيها نقل مجتمعات الكفر هذه الى مجتمعات الإسلام وفرض شريعتنا السمحاء من خلال ما يسمونه بالديمقراطية ، إذ سنكون الأكثرية بما وهبنا الله بقوة الإنجاب وسنكون نحن الأعلون ... لأننا مسلمون .
وهكذا ... وهكذا يستمر متطرفو عصابات الإسلام السياسي واحزابهم بالتبجح والتطاول على كل القيم والأخلاق والمبادئ الإنسانية ، فيبرعون في انتاج الأكاذيب والأساطير والخرافات ، إضافة الى العمل بكل جد وتفان على انحطاط التعليم ، والحط من قيمة واهمية الفنون والآداب ،وتزوير التاريخ ، ونشر كل أنواع الجهل اجتماعياً وسياسياً واقتصاديا وعلمياً ،واختلاق ممارسات تأنفها اصغر الحيوانات عقلاً ،اصبغوا عليها صبغة تجعل من الإنسان الذي يستمع الى خطاباتهم ويلتزم بفتاواهم ويتبع اوامرهم آلة صماء لا تجيد سوى سير القطيع ولا تنطق بغير سمعنا واطعنا.
ما نراه في مجتمعنا العراقي اليوم يشكل انعكاساً جلياً لمثل هذه التبجحات الكاذبة والأقاويل الخرافية المتهرئة، ونشر الجهل المبرمج، فشاعت قيم انتجتها ثقافة الجيل الجديد الذي تربى تحت منابر أحزاب الإسلام السياسي ومارس اخلاق وسلوكيات عصاباتها ومليشياتها.
غالباً ما تسرح الأفكار منشغلة بما سيؤول اليه المجتمع العراقي بعد ان سادت على مقدراته عصابات الغزو الأمريكي لوطننا عام 2003 واسقاط دكتاتورية البعثفاشية المقيتة، وبعد ان بدأ جيل التربية الإسلاموية يظهر الى الوجود كمؤثر في التركيبة الاجتماعية في العراق ويشيع فيها ما لم تعرفه الأجيال السابقة.
إذا راقبنا الساحة الاجتماعية العراقية عن كثب، فسنكتشف ان بقايا أجيال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وبشكل ما منتصف الثمانينيات، التي بدأت تتناقص بمرور الزمن، تتناقص معها ايضاً بعص المقومات التي كان المجتمع العراقي يستند عليها سواءً في العلاقات الاجتماعية او في كثير من الممارسات اليومية التي ظلت تفرز الأنفاس الطيبة التي تربت عليها هذه الأجيال. فلم نزل نر النزعة الذاتية في التعاون عند هذا من الناس، والتعامل الأخلاقي الخالص عند ذاك، والصدق والأمانة في المعاملات هنا، وحب الخير للآخرين دون انتظار المقابل هناك .إلا ان تناقص هذه القيم والشعور الذي يتزايد كل يوم باختفائها المتسارع وبروز البديل الغريب والجديد الذي لم يألفه المجتمع العراقي والذي لا يشير الى ما ينسجم مع ما كان سائداً فيه، يطرح السؤال عما سيؤول اليه هذا المجتمع اذا ما ساد جيل التربية الإسلاموية الذي اصبح الآن بعمر يمكنه به التأثير سلباً على كثير من المسارات والمقومات الاجتماعية التي عرفتها الأجيال السابقة. فكيف سيكون حكام العراق ومسؤولو مقوماته الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية الذين نشأوا على قيم مخلفات الغزو الأمريكي وعلى كل ما اشاعه بينهم مَن سلطهم هذا الغزو على مقدرات وطننا.
الدكتور صادق إطيمش
إن الزرازير لما طار طائرها ........ توهمت انها صارت شواهينا