العطر ذاكرة ثانية ، بان .. \"مهسا أميني\" العراق!
بقلم : د.غادة العاملي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

في زمن بعيد نسبيًا، كان المجتمع العراقي يُعرف بتماسكه وتكافله. البيوت متقاربة، والأبواب مشرعة للجيران، والقلوب عامرة بالود. كانت الخروقات نادرة، والجرائم تكاد تُعد على الأصابع، والأمن الاجتماعي يستمد هيبته وقوته من القيم المشتركة وحرص الناس على صون كرامة بعضهم بعضاً

في ذلك الوقت،

كان ينظر إلى المرأة بوصفها قوة فاعلة في المجتمع ودافعة للتغيير، تقود المبادرات، تصنع القرار، وتبني المستقبل بإبداعها وعزمها، محترمة في التعليم والعمل، ومقدّرة لمساهمتها في تقدمه وبنائه، معبرة عن فكرها وإبداعها بكل ثقة..

كنا نتحدث في الإعلام والصحف عن تجاربنا الناجحة كنساء، وعن تقدير المجتمع لنا، ومشاركتنا جنباً إلى جنب مع الرجال في بناء البلد وتطويره. كنا نعلن بفخر عن مكانتنا ومساهمتنا، بعيداً عن أي نظرة دونية تقلل من قدرنا أو تحط من شأننا. وكان الغير يميزنا ويقارن إنجازاتنا مع بلدان أخرى، مؤكدين على قيمتنا وإمكاناتنا الفعلية.

صرنا اليوم أمام صورة مغايرة تماماً… لم تعد تلك المفاهيم والقيم سائدة، لانها اهتزت او تلاشت تحت وطأة تراجعات سياسية انعكست على المجتمع، تصدرت فيها جماعات طارئة وأفراد غيّروا مسار المجتمع، بإشاعة قيم متخلفة ترتكز على الطائفية والفساد وغيرها من سيئات ما ابتلينا به.

تغيّرت المدن ديموغرافيا، واختلطت فيها الملامح، وضاعت المرجعيات، وتدهورت الاحوال، حتى صار القتل والذبح والابتزاز حدثاً يومياً يتصدر الشاشات والمنصات ويُمحى سريعاً بفعل أشد بشاعة، تاركاً جرحاً غائراً في نسيجنا الاجتماعي.

في ظل هذا الواقع المأزوم، ثمة سلطة تعمل على العكس تُخفي وتبرر وتنتهك، بينما يُترك الناس بأصواتهم المبحوحة المخنوقة، لا يملكون سوى التعليق والكتابة.

أما الغلبة فتبقى لأصحاب المال والنفوذ والسلطة والقرار السياسي، الذين امتد سلطانهم حتى بات يطرق أبواب بيوتنا، ويتحكم في تفاصيل معيشتنا وحياتنا وموتنا.

ما جرى للدكتورة بان لم يكن إلا سوطًا جديدًا يجلد ضمير المجتمع، ويجبره على الانحناء، في محاولة لتطبيعنا على خسارات اخرى قادمة. ورغم أن البيانات الرسمية تصر على تسجيلها “منتحرة”، فإن الحقيقة ما زالت خلف الأبواب المغلقة، تخنق العائلة بين الصمت من الخوف والتهديد.

أما الاحتجاج الذي شهدته ساحة التحرير، فلم يكن إلا انعكاسا لضعف الإيمان بالتأثير والتغيير لم يرتقِ الحدث إلى مستوى الفاجعة. إذ اقتصرت المشاركة فيه على العشرات من المحتجين، من الناشطات والمبادرات، وهم وحدهم لا يستطيعون تمثيل خمسة وأربعين مليون عراقية وعراقي لم يبتلعوا رواية السلطة ولم ينتفضوا للوقوف معهم.

حجم الغضب الكامن لدى الملايين لم ينعكس في المشهد، والصورة لم تعكس هوية العراقيين ولا عمق شعورهم، بل جسدت تراجعًا مؤلمًا في واقع الحقوق والحريات وفي مكانة القانون. ولكنها مع ذلك، أظهرت هذه التظاهرات نخبة عراقية أصيلة حاملة للهم العراقي، تعي حقوقها وتطالب بها، حتى وإن بدت منفصلة بفعل تفوقها عن محيط مؤسف مشوش ومستلب.

وحتى تكون التظاهرات مؤثرة وفاعلة، فلا بد أن تقوم على الحشد الواسع، والاستمرارية، وتنظيم الأصوات، وأن يكون للإعلام الوطني الحقيقي تغطية واسعة تحميها من التغييب، بشكل سلمي يحصنها من التشويه أو القمع. والأهم من ذلك كله هو ربطها بالقيم العامة، الحق في الحياة، صون كرامة النساء، وسيادة القانون، انطلاقا من حادثة فردية تصر السلطة على تشويه تفاصيلها مع ان أدلتها حاضرة بقوة ولاتغطى بغربال.

ولعل التاريخ القريب يقدم لنا مثالاً صارخاً على قوة التظاهر الشعبي، فمازالت في ذاكرتنا الحاضرة حادثة مقتل الشابة مهسا أميني في إيران عام 2022. على يد “شرطة الأداب” الذي ادى إلى موجة احتجاجات واسعة شارك فيها مئات آلاف الإيرانيين في كل المحافظات، مطالبين بالعدالة وحقوق المرأة، ما أجبر السلطات على الاعتراف بالحادثة وفتح النقاش حول انتهاكات حقوق الإنسان وسياسات الحجاب الإلزامي.

وتُظهر هذه الواقعة، كما في حالة خالد سعيد في مصر، عام 2011، حين قُتل على يد الشرطة، وحاولت السلطات طمس القضية. لكن التظاهرات المتواصلة والضغط الشعبي والإعلامي كسر جدار الصمت وكشف الحقائق، وكان شرارة أشعلت ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني من ذلك العام. وهذا ما يعزز دور الحركات الشعبية، ويبرهن كيف يمكن أن تكشف الحقائق وتحدث تأثيراً ملموساً حتى في أنظمة مستبدة.

اليوم، الصمت القضائي والأمني، والفتور الاجتماعي إزاء هذه الجرائم والادعاءات الملفقة، لا يزيد المشهد إلا تعقيداً. فهو صمت يفاقم الجهل والعنف، ويفتح الطريق أمام خطابٍ يبرر الجريمة، تمهيداً لإطلاق العفو عن المجرمين. وهنا يكمن الخطر الأكبر، أن نعتاد على الانحناء، وتقبل العيش في مجتمع تُغتال فيه الحقيقة، وتُكسر فيه كرامة الإنسان، ثم يُطلب منا مضغ الجريمة وابتلاعها بوصفها قدراً لا مفر منه!

المدى

  كتب بتأريخ :  الأحد 17-08-2025     عدد القراء :  54       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced