ونحن نتابع الأعداد الكبيرة التي شملها الاستبعاد من الانتخابات، سواء لأسباب تتعلق بـ"المساءلة والعدالة" أو بسبب "السجل الجنائي"، نقف أمام مشهدٍ معقد يثير كثيراً من الأسئلة. فبين هؤلاء المستبعدين مسؤولون كبار، وزراء سابقون، أعضاء في مجلس النواب، وشخصيات نافذة شغلت مواقع متقدمة في مؤسسات الدولة. ونحن بطبيعة الحال لا نتأسف على استبعاد أي شخص مُدان، بل ونقف بجانب أي إجراء يلاحق الفاسدين والمجرمين والناهِبين. فمثل هذا الإجراء، بحق أي صاحب سجل جنائي تولى تلك المناصب، يبرهن أن وجوده كان غير شرعي أصلاً. لكن يبقى السؤال: ماذا عن الأثر الذي تركوه خلال سنواتهم في السلطة؟ لقد مارسوا مهمات، وصوتوا على قوانين، واتخذوا قرارات انعكست بصورة مباشرة على حياة الناس. فهل يُمحى أثرهم السلبي بمجرد استبعادهم، أم أن نتائج أفعالهم ستبقى قائمةً متراكمة في جسد الدولة والمجتمع؟
المسألة لا تتعلق فقط بأسماءٍ مستبعدة، بل بالمعايير نفسها. فإذا كان الهدف المعلن هو النزاهة، فلماذا لا يتسع معيار الاستبعاد ليشمل عامة الفاسدين في مواقعهم الوظيفية داخل مؤسسات الدولة، لتغطي النزاهة مساحتها الأوسع؟ ومن بابٍ أولى أن تُطبق القوانين بشكلٍ متوازن وشامل. وإذا كان الهدف نزاهةَ الانتخابات، فأين المفوضية العليا المستقلة للانتخابات من تطبيق قانون الأحزاب الذي يمنع مشاركة أي حزبٍ يمتلك جناحاً مسلحاً؟ وأين هي من ملفات المال السياسي، وتمويل الحملات بموارد الدولة، واستغلال المناصب لتزوير إرادة الناخبين؟
إننا أمام مشهدٍ يوحي بأن الاستبعاد جزءٌ من "معركةٍ سياسية" أكثر منه إجراءً قانونياً صِرفاً. معركةٌ تُستخدم فيها أدوات القانون لتصفية الحسابات، لا لتصحيح المسار. وإلّا فكيف نفسر أن بعض أصحاب الأسماء المستبعدين اليوم، كانوا بالأمس وزراءَ ونواباً شرعيين على الورق، مارسوا دورهم التشريعي والتنفيذي علناً من دون أن تعترض الجهات المختصة؟
والسؤال الآخر: هل اصحاب هذه الأسماء هم وحدهم الذين يمارسون وظائف سياسية ويشغلون مراكز مهمة في الدولة، ولهم "سجل جنائي"؟ أم أن السجل يشمل شخصيات أخرى متغلغلة، تحوم حولها شبهات فساد؟ فلماذا لا يشملهم الاستبعاد أيضا؟ مؤكدٌ إن نظام المحاصصة هو الحامي لهؤلاء، وهو حاضنتهم.
إن غياب المعيار الواضح يجعل كل الإجراءات انتقائيةً. فإذا كان المقصود إصلاحاً حقيقياً، فلا بد من مراجعةٍ شاملة تطال الجميع: من يترشحون للانتخابات، ومن يجلسون الآن على كراسي الدولة. أما الاقتصار على من لهم صلة بالانتخابات وحسب، فذلك انتقائيةٌ لا أكثر.
ويبقى السؤال الأهم: هل هذه الإجراءات بدايةُ مسارٍ قانونيٍّ جاد، أم مجرد جولةٍ أخرى من جولات الصراع السياسي؟ وهل سنشهد يوماً تطبيق القانون والعدالة على الجميع بلا استثناء، أم أن قاعدة "من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن" ستبقى معتمدة، تحمي البعض وتستثنيهم من أي مساءلة؟
ويبدو أن أبا سفيان هذا الزمان لا يمتلك بيتاً واحداً، بل بيوتاً.. وأبوابُها مشرعةٌ أمام الفاسدين.
المصدر: طريق الشعب