مِيتة مؤكّدة، وأخرى مؤجّلة
بقلم : لطفية الدليمي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

لطالما كتبت أنّني أرغبُ في الموضوعات الثقافية معروضة في سياق روائي أو سيرة ذاتية أو عادية. أعتقدُ أنّ هذه المقاربة الثقافية تساهمُ في تعزيز مناسيب المشاعية الثقافية المطلوبة في عصر متفجّر بالمعرفة كعصرنا هذا.

اتفاقاً مع رغبتي هذه قرأتُ منشوراً يشيرُ فيه صديق رائع، مشتغل بالفلسفة الأكاديمية وفلسفة المعيش اليومي، إلى أنّ سيرة الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين كانت ميدان تناول روائي لكاتب أمريكي إسمه بروس دفّي Bruce Duffy الذي امتدت حياته بين عامي 1951 و 2022. العمل الروائي الأوّل له والذي تناول فيه سيرة فتغنشتاين كان ضخماً بحدود الستمائة صفحة، وتناول عمله الثاني سيرة الشاعر رامبو. رحل الكاتب بعد معاناة طويلة من مضاعفات سرطان الدماغ عام 2022. المثير في الأمر أنّ دفّي كتب روايته الأولى ليملأ ساعات فراغه بإشتغال ثقافي يحبه أثناء عمله حارساً لإحدى المؤسسات الصحية. أظنّه تماهى في عمله مع فتغنشتاين الذي عمل بوّاباً لعمارة في بعض سنوات حياته؛ بل ربّما يكون تماهيه قد بلغ أشواطاً أكبر من العمل حارساً لعمارة. لا أظنُّ أنّ قارئ رواية (العالم كما وجدته The World as I Found It)، وهي الرواية مدار حديثنا هذا، سينكبُّ على قراءة الرواية من غير تدقيق حثيث في حياة كاتبها.

لم أقتنع يوماً بفكرة موت المؤلّف The Death of the Author لمبتدعها المنظّر الثقافي الفرنسي رولان بارت. لم أقُلْ نظرية؛ فالأمر لا يرقى لنظرية كما أحسب. موت المؤلّف -كفكرة- لها جاذبيتها ومسوّغاتها؛ لكنّما هي عسيرة التطبيق تماماً مثل فكرة الإشتراكية أو الدخل الأساسي العالمي لكلّ فرد. ستواجهنا معضلةُ جمال الفكرة مع وعورة التطبيق. أراد بارت من موت المؤلّف التصريح بأنّ أيّ تخليق أدبي، ومتى ما غادر مؤلّفه ليكون مشاعاً متداولاً، يتوجّبُ معاملته بذاته مثلما هو بعيداً عن إسقاطات كاتبه عليه. هل نستطيع إلى ذلك سبيلاً؟ لا أظنّنا نستطيع. يطلب بارت أن نعامل العمل المكتوب وفقاً لإعتبارات جمالية-أدبية خالصة بعيداً عن أثقال الآيديولوجيا وبصمة الكاتب الذاتية. من جانب يبدو هذا الفعل مرغوباً فيه لأنّه يجعل النص منفتحاً على دهشة متوقّعة وممكنة من غير إفسادها بعوامل التوقّع المسبّقة، وهذا موقف ينطوي على معيار النزاهة عندما نقرأ لكاتب لم يسبق لنا قراءته من قبلُ، أو عندما نقرأ لكاتب لم يعجبنا عملٌ سابق له. كلّ عمل أدبي هو كون مستقلّ خاص، ولا يتوجّب إفسادُ جمال هذا النسيج الأدبي بإسقاطات ذاتية مسبّقة أو اعتبارات آيديولوجية محدّدة. كلٌّ منّا سيفهم العمل في سياق حصيلته من الخبرة، والكاتب ليس الصانع الأوحد للقراءة والفهم. هناك قراءات وفهم تأويلي لكلّ نص يتمايز عن القراءات الأخرى. بهذا المعنى والسياق يكون المؤلف قد مات حقاً. لكن هل ما يحصل في واقع الحال هو ما يريده بارت؟ الأغلب إنّه لا يحصل. قلّما نختارُ كتاباً للقراءة بمحض الصدفة. ما يدفعنا للقراءة في الغالب هو اسمُ الكاتب وأعماله السابقة، أو طبيعة الموضوع الذي نحب القراءة فيه. هنا نقع تماماً في معضلة الإنحياز The Alignment Problem. نحن في الغالب نقرأ مدفوعين بإسم الكاتب أو غواية موضوع القراءة.

هل أقدّمُ أمثلة؟ هي عديدة. فكّروا معي مثلاً في روايات (غيوم ميسو) أو (دان براون). لا يمكن للمرء إلّا أن يقرأ رواياتهما وهو مأخوذ بأعمالهما السابقة. لا يمكن فكّ الإرتباط بين سطوة الكاتب واستقلالية النص الإبداعي، ويبدو أنّ أمثال هؤلاء عرفوا سرّ اللعبة: أن لا تترك قارئك من غير عمل جديد كلّ سنة أو سنتين في أقصى الأحوال حتى لا تتيح له التفلّت من الدوران في مدارك، وحتى لا تخفّ جرعة التخدير التي حقنتها في جسده. ليس الأمر حصرياً في ميدان الأعمال الروائية والإبداعية. كثيرون منّا سيختارون قراءة كتاب -أيّ كتاب- متى ما وجدوا إسم مؤلّف محدّد عليه، ولو شئتُ تعداد بعض هذه الأسماء التي أحبّ لذكرتُ عشرات أو مئات منها. الواقع يخبرنا أنّ فكرة بارت، رغم نبلها، لم تتفق مع معطيات الواقع.

أما الميتة الناجزة التي أحسبها مؤكّدة فهي موت الناقد الأدبي في عالمنا المعاصر. نعم، الناقد الأدبي مات رغم أنْ لا أحد صرّح بموته مثلما فعل بارت مع موت المؤلّف. موت الناقد الأدبي لا يحتاج حتى إلى التصريح به. هو واقعة نشهدها كل يوم ولها مصاديقها العديدة ومسوّغاتها المقبولة والمنطقية.

لماذا مات الناقد الأدبي؟ أصل الفكرة هو خطلُ تشكيل مرجعيات ثقافية متشخّصة في أسماء محدّدة تعلي شأن (س) وتطيح شأن (ص). هذه فكرة متهافتة تماماً. سأتجاوز الفكرة القائلة أنّ الناقد الأدبي المفترض فيه كلية المعرفة والقدرة وعلوّ الإبداع، لماذا لا يكتب العمل الأدبي الخارق الذي سيخلّده مع أسماء الأكابر المسطورين في المعتمدات الأدبية؟ لم يفعل ولن يفعل لأنّه استطاب المكوث في منطقة راحته التي غالباً ما تكون أكاديمية.

إنها لمفارقةٌ حقيقية مثيرة أنّ ميتةً مفترضة تستوجب ميتة حقيقية. أعني بهذا أنّ موت المؤلف وفقاً لرؤية بارت (وهو موت يعمل في المستوى الإفتراضي غير المتحقق) هو ذاته الموت الذي يستوجبُ موت الناقد الأدبي. الناقد الأدبي في النهاية هو قارئ للنص؛ لكنّ اعتبارات محدّدة (دعونا الآن من صحّتها ومنطقيتها) جعلته حائزاً للقب (الناقد الأدبي) وجوّزت له أن ينشر رؤيته للنص. ليس ثمّة من مسوّغ حقيقي لقبول رؤية الناقد الأدبي. هو قرأ النص وشكّل رؤيته تبعاً لخلفيته الثقافية ومرتسماته النفسية وبروفايله الذهني؛ فلماذا يرادُ لرؤيته تلك أن تحوز سطوة على الآخرين؟ دعوني أقدّم لكم مثالاً عملياً: لنفترضْ أنّ رواية (العالم كما وجدته) التي أشرتُ إليها أعلاه ترجمت إلى العربية ووقعت بأيدي بعض ناقدينا الأدبيين الستينيين أو السبعينيين. هل تتخيلون المشهد؟ سنقرأ عبارات مطوّلة على شاكلة (نص محشو بعبارات تقريرية أساءت لجوهر الفعالية الأدبية وجعلت الرواية محض أطروحة فلسفية... ...).

الأفضل من توصيف (الناقد الأدبي) هو (المشتغل الثقافي). الإزاحة هنا ليست توصيفية بقدر ما هي دلالية وحقيقية. هناك مشتغل ثقافي، يعمل في شتى الحقول المعرفية ولا يقتصر على الرواية، يكتب رأيه من غير أن يشهر السيف في يده، ويبقى للقارئ أن يقتنع بما يكتب أو لا يفعل. هكذا يفعل المشتغلون الثقافيون العالميون في حقل (مراجعات الكتب Book Reviews) العالمية. لم يعُد الفضاء الثقافي والأدبي العالمي يتّسعُ لغطرسة أدبية لشخوص على نمط (إف. آر. ليفز F. R. Leaves) أو (هارولد بلوم Harold Bloom) ممّن لعبوا أدوار حارسي البوّابة المقدّسة لمعتمدات أدبية هم خالقوها. ثمّة بالتأكيد أسباب عديدة أخرى ساهمت في كسر صورة الناقد الأدبي باتجاه تعزيز وإشاعة مفهوم (المشتغل الثقافي)، وقد كتبت عنها في موضوعات عديدة؛ لكنّي شئتُ هنا التركيز على مفهوم الإشتباك العضوي بين موْتين: موت المؤلف وموت الناقد الأدبي.

يرى كثير من علماء المستقبليات حياة المؤلف المعاصر ليست شيئاً أكثر من موت سريري ينتظر اللحظة المحتومة القريبة. حينها سيرفع الذكاء الإصطناعي أنابيب التغذية من الجسد المسجّى، وسيطفئ أجهزة التنفّس والقلب الإصطناعية. آنذاك سيُعلَنُ موتُ المؤلف كحقيقة واقعة بعد أن تجتاحنا دكتاتورية خوارزمية ربما ستلغي الخصوصية الفردية في فهم وتأويل النصوص. لماذا لاترى في المشهد القادم ايذانا بحياة جديدة لم تختبرها بعد؟ في كل الاحوال من الحكمة أن لا ننسى لذّة اللحظة الحاضرة، وهي لذّة مغبونٌ من يتغافل عنها.

  كتب بتأريخ :  الأحد 24-08-2025     عدد القراء :  51       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced