في الثالث والعشرين من شهر آب 2025 الجاري مرت الذكرى الأليمة السابعة عشر لاستشهاد المثقف والمناضل كامل شياع ( 1954- 2008 ) الذي تم اغتياله في الثالث والعشرين من آب 2008 على طريق محمد القاسم وسط بغداد في وضح النهار برصاص مسلحين خارجين عن القانون من مسدسات كاتمة للصوت وسجل الحادث الاجرامي كالعادة ضد مجهول , ولحد اليوم لم يتم الكشف عن القتلة المجرمين من قبل الحكومات المتعاقبة وهي كالعادة عندما يقتل مثقفا او ناشطا مدنيا او مناضلا من اجل حرية الكلمة يبقى القتلة طلقاء بل ويتمادون في تنفيذ المزيد من الجرائم.
لم يكن اغتيال المثقف كامل شياع اغتيالا عشوائيا كما تجري العادة في شوارع العراق يوميا والتي تحصل لكل مواطن قد يخرج صباحا للحصول على لقمة عيشه ولم يعود حيا إلى أسرته بل هو اغتيال ممنهج لرموز ثقافة البديل التنويري التي تحمل مشروع الخلاص من أرث ثقافة القطيع الدكتاتورية والطائفية السياسية والأثنية البغيظة, وكان لموقعه مستشارا لوزير الثقافة دلالة واضحة في مغزى اغتياله.
المناضل كامل شياع من بين الألوف الذين فقدهم الوطن خلال أكثر من عقدين من تجربة عراق ما بعد الدكتاتورية، ولم يعرف إلى اليوم، مَن هذا الذي يوجه بقتل مثقف حالم، له مشروعه الذي لا يملك غيره. نتذكر هنا المصير المشابه للناقد قاسم عبد الأمير عجام الذي اغتيل في أيار (مايو) 2004، وأسماء أخرى من المثقفين والأعلامين والصحفيين كثيرة نجهل من الذي قتلها، ومن هو التنظيم أو الكيان أو المليشيات التي خططت لمثل هذه الجرائم البشعة، ولكن نقيض مشروع كامل شياع من قوى الظلام والتخلف والأنحطاط هي التي تعرف قتلته أسوة بمعرفتها من قتل المحتجبن في انتفاضة تشرين للعام 2019.
كان مشروع الشهيد كامل شياع يستهدف في ملامحه الكبرى تفكيك بنية العقل القطيعي الذي انساق وراء قيم الدكتاتورية وما بعدها من قوى الظلام والرثاثة والأنحطاط وأعادة بناء الثقافة العراقية الوطنية على أسس احترام تفرد العقل العراقي وعدم وقوعه تحت تأثير الخرافة والشعبوية والطائفية السياسية التي تجرد العقل من قدراته النقدية والأبداعية وتحوله إلى كائن همجي يرتكب الفضائع والجرائم ويضفي عليها قدسية مزيفة ويفرح لأعمال الأبادة والقتل والخراب.
شكل اغتيال كامل شياع ضربة لنظام العدالة في العراق، وكانت سياسة الإفلات من العقاب بعد مقتله علامة على انطلاق سلسلة من جرائم الاغتيالات والتغييب شملت العديد من الناشطين والمثقفين والمدافعين عن حقوق الإنسان وحرية التعبير. إن السياسة الممنهجة في اغتيال وتغييب رموز الاحتجاج المدني، والقتل العشوائي والطائش لقمع محتجي المدن العراقية في انتفاضة تشرين في العام 2019، وعجز السلطات عن معرفة الجناة أو تجنبها ملاحقتهم أو رمي الجرائم برقبة ما يسمى " الطرف الثالث " أو " قاتل مجهول " جميعها تجد جذورها في تلك اللحظات المأساوية التي اخترقت فيها العيارات النارية جسد الراحل. إن العيارات التي اغتالت حلماً عراقياً تجسد في الأنسان النموذج، حطمت ايماننا بنظام العدالة الذي نفتقده في هذه السنوات العسيرة التي يمر بها العراق من اللاأستقرار والفوضى والفساد.
لقد استشهد كامل شياع في حقبة ما يسمى"الحرب الطائفية " والتي راح ضحيتها آلاف العراقيين الأبرياء قتلوا لأتفه الأسباب بما فيها القتل على الأسم بل والمهنة والعائلة وعلى شبهات مفتعلة وهو صراع في جوهره على السلطة والمال وفرض خطاب بلون قسري واحد والأنتقام من تنوع الأنتماءات المغايرة وكان بأمكان هذا الصراع ان يدار بوسائل اكثر انسانية تسمو فوق الغرائز البدائية ولكن قوى التوحش والسلاح المنفلت والهمجية المفرطة لن تسمح بذلك، وقد قتل كامل شياع ليست لدينه او مذهبه او أثنيته فالجميع وكل من عرفه لا يعرف تلك الأنتماءات في سلوكه اليومي بل حتى قتلته لا يعرفون ذلك عنه ولكنهم قتلوه لمشروعه العابر لتلك الأنتماءات الضيقه انه مشروع الثقافة الوطنية العراقية.
لقد وجد كل من عرف الشهيد شياع وتألم لفقده انه شخصية ملؤها الطيبة والحب للناس وعقل انساني مفكر مبدع وملتصق بوطنه رغم المخاطر التي شعر وتنبأ بموته مبكرا وكان مفعما بالأمل في زمن الفوضى والهمجية وكان أنيسا بكلامه الهادئ و ودودا بطيبة نادرة. لقد قتل صناع الموت كامل شياع لا لكونه مثقفا عقلانيا فحسب بل مدافعا عن حقوق البسطاء والمحرومين ونصيرالمبدعين والفنانين ومدافعا عن الفكر الجاد وقد اختار الهمج قتله لكونه نقيا فهو نموذج معاكسا للفساد والظلامية والأمل بعراق آدمي متصالح مع ذاته.
أرفق هنا للقارئ الكريم رابطين للفقيد كامل شياع، الأول رسالة كانت مرسلة للراحل الباحث الدكتور كاظم حبيب وهي بعنوان" عودة إلى الديمقراطية والمجتمع المدني " ، والرابط الثاني بعنوان" عودة من المنفى " والتي يوضح فيها بعض من تطلعاته الفكرية والثقافية ويتنبأ فيها بأغتياله:
https://m.ahewar.org/s.asp?aid=569703&r=0&cid=0&u=&i=2264&q=
https://m.ahewar.org/s.asp?aid=145727&r=0
أما سيىرته الذاتية فأنشرها ادناه نقلا عن موقع المعرفة:
درس وتعلم في مدينته، وتخرج من كلية الآداب جامعة بغداد وتعين كمدرس لمادة اللغة الإنگليزية، لكنه ترك العراق لمعارضته حزب البعث العراقي وسياسة تبعيث النظام التعليمي.
غادر العراق عام 1979 واستقر في مدينة لوڤان البلجيكية عام 1983، بعد إقامة قصيرة في الجزائر حيث عمل مدرساً للغة الإنجليزية، وإيطاليا التي نشر فيها قاموساً، إنگليزي-إيطالي-عربي، للمسافرين ورجال الأعمال.
حصل على شهادة الماجستير في الفلسفة من جامعة لوڤان الكاثوليكية عن أطروحته “اليوتوبيا معياراً نقديّاً” والتي حازت على درجة الامتياز، والتي صدرت عام 2012 عن دار المدى.
خلال سنوات المنفى، وسّع الراحل اهتماماته بالثقافة والفلسفة الأوروبيّة لتشمل الرسم، السينما، المسرح، وفنّ الفوتوگراف.
كتب وحاضر في طيف واسع من المواضيع، ما أكسبه مكانة مرموقة بين أبناء الجاليات العراقية في المنفى، وأقام علاقات صداقة واسعة مع مواطنين من جنسيات وخلفيات مختلفة.
عمل في الصحافة خلال إقامته في مدينة لوفان، وكتب في مواضيع شتّى لصحيفة “الحياة” اللندنية، ومجلة “الوسط” اللندنية، ومجلة “مواقف” الفصلية، ومجلة “الثقافة الجديدة” الشهرية الصادرة عن الحزب الشيوعي العراقي، وراديو “في. آر. تي” الدولي – القسم العربي- بروكسل، وقسم التلفزيون الدولي لوكالة اسوشيتد برس (أي. بي. تي. إن) – بروكسل.
عاد إلى بغداد بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003 وعيّن مستشاراً لوزارة الثقافة، نشط حينها بمحاولة استعادة الثقافة العراقيّة لدورها الريادي والايجابي في المجتمع، ونظّم مؤتمر المثقفين العراقيين عام 2005 .
مؤلفاته
بعد سنوات من وفاته بدأت مؤلفاته تصدر حيث اصدرت دار المدى ثلاثة كتب ضمن سلسلة إصدارات للفقيد ستنشر كلّها تباعاً.
الكتاب الأول: "تأملات في الشأن العراقي" الذي يبحث فيه مآلات البلد وتحولاته في ظلّ "العنف الذي اجتاحنا بقوّته الكاسحة دفعة واحدة"، إذ ترد على ظهر الغلاف الأخير هذه الجملة العميقة: "نحتاج إلى يقظة أخلاقية مسؤولة وإلى أجيال وأجيال تمتلك ناصية التفكير النقدي، ذلك أن (أعداء المجتمع) هؤلاء هم بناة مستقبله".
الكتاب الثاني: "قراءات في الفكر العربي والإسلامي" مناقشاً فيه "التحديد المتبادل في الخطاب القرآني بين العقلاني، واللاعقلاني... وكيف يبدو التاريخ في ضوء هذا الصراع وكأنّه تعاقب متواتر من الهداية والضلال".
الكتاب الثالث فجاء بعنوان "الفلسفة ومفترق ما بعد الحداثة" إذ بحث مضمونه في الأفكار الفلسفية التي شغلت أوروبا ودور مدرسة فرانكفورت وتأثيرها ومن ثمّ اشتباك التاريخ مع أسئلة الحاضر، وعلاقة أفكار ما بعد الحداثة بالأيديولوجيات الكبرى.
كتاب "كتابات في الرواية والشعر والفنّ"
كتاب "رسائل وأمكنة".
عندما استهدفوا المناضل كامل شياع فقد استهدفوا كل ضمير حي يمتلك القدرة على تغير العراق نحو الأفضل. المجد والخلود للشهيد المثقف والمناضل شياع والخزي والعار يلاحق قتلته والصبر دوما لأسرته في الغربة.