يُقال إن البعض من المتنفذين خصص ما يصل الى خمسة ملايين دولار للاستحواذ على المقعد الواحد في انتخابات مجلس النواب القادمة، المقرر اجراؤها يوم 11/11/2025. ملايين تُنفق لشراء الذمم والضمائر بشتى الاشكال والطرق، حتى يتحوّل المقعد عند بعضهم إلى استثمار يوظفون فيه المال السياسي، ليستعاد أضعافاً عبر شبكات الفساد. وهكذا تدور دورة هذا المال ليضفي الشرعية على نفسه، وليتحول إلى جزء من "اقتصاد" معترف به، يحمي الفاسدين ويمنحهم الحصانة، ما دام يغيب التوجه الحقيقي لمحاسبتهم.
الأصوات لا تُشترى في يوم الانتخابات وحده، بل هناك مقاعد يُحسم ثمنها مسبقاً، لأن المال السياسي هو الصندوق الذي يسبق كل صناديق الاقتراع. فقبل أن يدلي المواطن بصوته، تكون النتائج قد رُسمت بالمال المستباح، بموارد الدولة المنهوبة، وبشبكات النفوذ التي تبيع وتشتري المقاعد. ولهذا يتحول مجلس النواب عند المتنفذين إلى سلعة في بورصة النفوذ، بدل أن يكون بيت الشعب.
والمال السياسي ليس ظاهرة عابرة، بل هو العمود الفقري لنظام المحاصصة. فمن خلاله تُموَّل الحملات الانتخابية، وتُشترى الذمم، وتُعقد التحالفات، وتُزيَّن الشوارع بلافتات تكلّف الملايين، في بلدٍ يعجز عن تأمين الكهرباء والماء. وحين تكون الكلفة بهذا الحجم، يصبح الفوز للمتنفذين استثماراً يُستردّ عبر صفقات الفساد ونهب المال العام بعد الوصول إلى السلطة. وهكذا يتكرّس المشهد العبثي.
ويدفع العراقيون ثمن الفساد مرتين: حين تُنهب لقمة عيشهم، وحين يُستغل المال العام لإغراء المحتاج منهم وشراء صوته يوم الانتخابات. إنها المفارقة المريرة: يُسرق الخبز أولاً، ثم يُعاد فتاتُه ثمناً للصوت، في دائرة فساد تمتد من نهب الحاضر إلى سرقة المستقبل.
وقد رفعت المفوضية العليا للانتخابات شعار القانون والمهنية والنزاهة، فاستبعدت بعض المرشحين باسم "المساءلة والعدالة"، وآخرين بسبب "السجل الجنائي". لكنها لم تتوقف عند الخطر الأكبر الذي يهدد العملية الانتخابية، وهو المال السياسي، الذي كان عليها أن تواجهه بجدية. فأي نزاهة هذه، حين تملأ صور الحملات شوارع بغداد والمدن الأخرى بتكاليف خيالية، بينما يعيش ملايين العراقيين في عشوائيات بلا خدمات أساسية؟
إن المال السياسي لا يفسد الانتخابات فقط، بل يفسد السياسة برمتها. فهو لا يترك مجالاً للمنافسة السليمة، التي تسعى اليها قوى محدودة تحاول التنافس بنزاهة، لكنها تجد نفسها أمام طغمة فساد تسيطر على مفاصل اللعبة الانتخابية.
المعركة الحقيقية إذن ليست في قوائم الاستبعاد ولا في نزاهة العدّ والفرز، بل في مواجهة المال السياسي، الذي يشتري الطريق إلى مجلس النواب حتى قبل أن تُفتح الصناديق. وإذا لم يُستأصل هذا الداء، فلن تكون الانتخابات سوى إعادة تدوير للفساد بأدوات "شرعية"، ظاهرها القانون وباطنها شراء الوطن.
ما لم يُستأصل المال السياسي، تبقى الانتخابات سوقاً لشراء الكراسي، لا ميدانا يعلو فيه صوت الشعب.