بسبب الماء المالح والشمس اللاهبة؛ تضررت نسبة كبيرة من الأشجار، التي زرعت في الحدائق العامة، والارصفة والجزرات الوسطية في البصرة؛ وهذه بحساب العمل البلدي خسارةٌ، وهدر في المال، وضررٌ بيئي، بات يتكرر في السنوات الأخيرة، وبما يشوّه الصورة الحسنة التي اكتسبتها الحكومة المحلية، والسمعة الطيبة التي نالتها عن عملها في تطوير المدينة، بشهادة البصريين وغيرهم. وكمواطن بسيط يؤلمني مشهد الأشجار الهالكة، ويحزُّ في نفسي أنَّ الحكومة عاجزة عن معالجة ذلك، أو أنَّها لا تملك الخطط والسبل لتلافي وقائع خطيرة، غير محتملة؛ كشحِّ الماء وحرائق الشمس.
ذات يوم يمرُّ أحدُ الأجانب الاوربيين بساحة أسد بابل التي تقابل جامع المقام بالعشار، فيصِّد ببصره الى شجرتين أو ثلاث طِوال من أشجار الواشنطونيا، التي زرعت قبل سبعين عاماً لكأنها مما زرعَ في العهد الملكي فيقول:" واضحٌ أنَّ البصرة مدينة قديمة، وعريقة في التاريخ"! كان الرجل الأجنبي قد استنتج ذلك من طول الأشجار تلك، وتسامقها في السماء. كفَّ الحاكم الوطني عن غرس الأشجار، والعناية بالحديقة العامة، ومنح حصة المواطن من المساحات الخضر، أو أنَّه يغرس ولا يعتني، أو يتركها للغيب وإرتدادات الطبيعة، يتضح لي ذلك حين تأخذني الخطوات في شوارع وأزقة المدينة، والامكنة التي أدمنتُ مشاهدتها فلا تقع عيني على شجرة واحدة تدلُّ على أنَّها من أعمال الحكومات الوطنية، إذ ليس التصحرُ بعثياً هو إسلامي أيضاً.
لم تكن أزمة المدينة مع الشمس المحرقة والماء المالح وليدة البارحة، لكنَّ الحكومات لا تسمع منّا كلمةً. ولمن لم يفقد ذاكرته نذكِّرُ بأنَّه ومنذُ العهد الملكي كانت هناك ماكنةٌ لسقي الحدائق؛ تعمل بالديزل؛ منصوبةً بالقرب من دار استراحة المتصرف(المحافظ)على كورنيش شط العرب، تأخذ الماء من شط العرب الى الحدائق العامة والجزرات وحدائق البيوت أيضاً، بموجب مبالغ بسيطة كانت تستوفى من سكان ضواحي مركز المدينة، ماء الماكنة يصل حدائق البيوت عبر خطوط نقل تختلف عن التي تنقل ماء الاسالة. نعم، كان ماء الشط وفيراً، ولسان الملح لا يصل الفاو الجنوبي، هو هامد هناك عند نقطة بعيدة في رأس البيشة، لكنه ظلَّ يدنو شيئاً فشيئاً؛ فأين كانت الحكومات من ذلك؟ ولماذا لم تعمل على إيقافه وإيجاد البديل؟ ولماذا لم تبدأ بانتشال الغوارق من شط العرب لتهيئته في أعمال الكري؟ ولماذا لم تصغِ للنداءات الكثيرة منذ العام 2018 حين اندلع أول لسان ملحي من البحر؟
العراق دولة لا تخطط لشيء، ووزارة التخطيط معطلة ومهملة؛ كإهمال مراكز البحوث والدراسات وتطوير المدن، لذا، فالمهندس العراقي غير قادر على تخطيط مدينة بالمعنى الكلي. معلوم لدينا أنَّه إذا ارتأت حكومة المملكة البريطانية انشاء مبنى ما فهي تنظر الى ما يمكن أنْ يكون عليه المبنى هذا بعد 200-300 سنة قادمة، وللاستدلال على هذا تطالعنا اليوم بناية الإعدادية المركزية؛ في العشار بالبصرة، والتي اكتمل بناؤها في العام 1925ومازالت بأبهى صورها، وتقدِّم خدماتها لألاف الطلبة والمدرسين، وهي شاهدٌ كبير على أجمل معلم مديني وارث حضاري في المدينة، فيما تهدمت وتتهدم تباعاً آلافُ المدارس التي بنيت بعدها! وهنا يبرز سؤالنا الكبير: لماذا لم تتخذ الحكومة التدابير الموجبة في تفادي أزمة المياه، وأنهارنا تعاني من الشح سنوياً، والمد الملحي ما انفكَّ زائراً ثقيلاً منذ عقد تقريباً؟ هل كنا سنقع في هذه وتلك، وهل ستموت اشجارنا وتتصحر حدائقنا لو أنَّ الحكومة قررت نصب محطة تحلية في مدينة تحرقها الشمس وتتنفس ملحاً مذاباً، فيما تصدِّر للعالم يومياً أكثر من ثلاثة ملايين برميل نفط!