لم يكن قرار مجلس الوزراء العراقي في 11 أغسطس 2025 بإلغاء نظام صندوق تقاعد موظفي الدولة رقم (4) لسنة 2008 مجرد خطوة إدارية عابرة، بل مثّل نقطة تحول خطيرة في إدارة واحد من أهم الملفات الاقتصادية والاجتماعية. فالرواتب التقاعدية، التي يفترض أن تكون محمية بصندوق مستقل قائم على الادخار والاستثمار، أصبحت مرهونة مباشرة بالموازنة العامة، أي أنها مرتبطة بسيولة الحكومة الشهرية وتقلبات أسعار النفط. بهذا، فقد المتقاعد العراقي أهم ضمان مالي له، وتحول من صاحب حق مكتسب إلى رهينة التزامات مالية قد تتأخر أو تتعثر مع كل أزمة نفطية أو عجز مالي.
هذا القرار يعكس بوضوح خللًا بنيويًا في التخطيط المالي. فبدلًا من تطوير الصندوق وتوسيع استثماراته لضمان استدامة الحقوق، جرى تفريغه من مضمونه ليصبح مجرد بند إنفاق حكومي. النتيجة الطبيعية هي تزايد الضغوط على الموازنة وتراجع الثقة بالدولة، فضلًا عن حرمان الاقتصاد من أداة استثمارية كان يمكن أن تسهم في التنمية.
وعند مقارنة هذا المسار بالنماذج العالمية، يتضح حجم الفجوة. فالدول المتقدمة اعتمدت أنظمة اكتوارية دقيقة، حيث تُدار أموال التقاعد بشكل مستقل وتُستثمر بعوائد طويلة الأمد، كما في السويد وهولندا، بما يضمن فصل الالتزامات التقاعدية عن تقلبات المالية العامة. في المقابل، تبنت دول نفطية مثل النرويج والكويت نموذجًا سياديًا يقوم على استثمار فوائض النفط في صناديق عملاقة توفر دخلاً مستدامًا للمتقاعدين عبر الأجيال. المشترك في هذين النموذجين هو أن أموال التقاعد تُدار كاستثمار طويل الأمد، وليس كعبء آني على الموازنة.
أما في العراق، فقد جرى الانحراف عن كلا النموذجين، فبدل وجود إدارة اكتوارية أو سيادية، تحولت رواتب التقاعد إلى التزام لحظي يمول من السيولة العامة. هذا التحول فتح الباب أمام تضخم بند التقاعد في الموازنة، رغم أن رواتب الموظفين كانت تُستقطع أصلًا لتمويله. فما الذي جعل التضخم مشكلة إذن؟
الجواب يكمن في طبيعة النظام بعد 2003. إذ لم تعد الرواتب التقاعدية حكرًا على المساهمين الفعليين من الموظفين، بل توسعت لتشمل شرائح واسعة عبر قوانين وتعويضات سياسية، مثل ضحايا الإرهاب وعوائل الشهداء والمصابين. هذه الفئات لم تدفع اشتراكات للصندوق، لكن حقوقها تُموَّل من الخزينة العامة، ما أدى إلى تضخم مستمر يفوق حجم الاستقطاعات.
إلى جانب ذلك، فإن غياب صندوق استثماري فعّال جعل الأموال لا تولد عوائد طويلة الأجل، بل تُستهلك مباشرة من الموازنة. ومع كل عام جديد يضاف عشرات الآلاف من المتقاعدين، في حين يتزايد متوسط الراتب التقاعدي بفعل التعديلات الحكومية والسياسات الاجتماعية، يصبح العبء أكبر وأكثر تضخمًا. هكذا تحوّل النظام من أداة ادخار واستثمار إلى نظام رعاية اجتماعية واسع النطاق، لكنه غير مستدام ماليًا.
إن أزمة التقاعد في العراق، إذن، ليست في حق المتقاعدين ولا في مبدأ الاستقطاع، بل في طريقة إدارة الأموال وتوسيع الالتزامات دون موارد استثمارية مقابلة. ولعل أخطر ما في الأمر أن هذا التضخم يقيد قدرة الدولة على الاستثمار في البنية التحتية والخدمات، ويجعل الموازنة رهينة بند رواتب يستهلك مواردها عاما بعد عام.
الحل لا يكمن في تقليص حقوق المتقاعدين، بل في إعادة بناء النظام على أسس استدامة مالية، إعادة تأسيس صندوق تقاعد مستقل يدار باحترافية اكتوارية، استثمار الأموال محليًا ودوليًا، مراجعة التشريعات بما يوازن بين العدالة الاجتماعية وقدرة الدولة، وفصل بند التقاعد عن الموازنة الجارية عبر ربطه بموارد استثمارية طويلة الأجل.
الخلاصة أن قرار إلغاء صندوق التقاعد لم يكن سوى تكريس لمشكلة أعمق: دولة تدير التزامات طويلة الأمد بمنطق السيولة الآنية. ما لم يتم إصلاح النظام ضمن رؤية مالية واضحة ومستقلة، فإن العراق سيتجه نحو مزيد من التضخم المالي وعجز الثقة، في وقت تحتاج فيه فئة المتقاعدين أكثر من أي وقت مضى إلى أمان اقتصادي يليق بسنوات خدمتهم.
المدى