نبدأ المقالة بتفكيك العنوان. ما الحكومات التي خذلتنا؟ كلّ حكومات العالم. نسبة الخذلان تتفاوت؛ لكنّما الخذلان واحد. عندما يكون الحديث عن المعضلات العالمية التي استحالت أزماتٍ متعسّرة الحل فسيكون الخذلان العالمي فاضحا لأمّنا الأرض وللإنسان الذي يعيش على توازنها الدينامي الدقيق. لا يكفي أن تعمل أية حكومة على المستوى المحلي لتراعي مصالح مواطنيها دون سواهم. هذه وصفة قديمة لحكومة رشيدة. اليوم يتوجّب على الحكومات أن تكون رشيدة على المستويين المحلي والعالمي في موازنة دقيقة بين الإثنين. أظنّ أنّ المثال الأسوأ بين الحكومات هي حكومة بمواصفات حكومتنا؛ فلا هي راعت مصالح شعبها ولا نظرت بعين الفهم للمآزق والمعضلات العالمية.
الطرف الثاني في العنوان، وهو الجزء الاكثر اهمية فيه كما أحسب، هو مفردة Geeks. هي مفردة إشكالية حمّالة لمعنيين:أولهما سيئ والآخر طيب. انتبهتُ إلى هذه المفردة بعدما قرأتُ كتاباً عنوانه (أمّة من العباقرة). كانت المقدمة التعريفية بالكتاب ومؤلّفته تشيرُ إلى أنّ العنوان الأصلي للكتاب هو Geek Nation. واضحٌ أنّ المترجم تلاعب تلاعباً قصدياً بالعنوان واستمالته الخصيصة الطيبة التي تنسب للمفردة، فكان موفّقاً في فعلته وعالماً بما يفعل كمترجم دقيق في حرفته.
كان المعنى القديم (السيئ) لمفردة Geek يشيرُ إلى نمط من الشخصية غريبة الأطوار لبشر لا يحبّذون الرفقة الإجتماعية، منعزلون Isolated كما هو الوصف السائد في علم نفس الشخصية، وتظهر عليهم أعراض إنطوائية introverts. المعنى الحديث (الإيجابي) صار يشير إلى أفراد لهم ذات الخواص السابقة مع تأكيد على ذكائهم المفرط وهوسهم بشيء ما. قد يكون هذا الشيء موضوعا تقنيا، أو لعبة ألكترونية، أو لغة برمجية، أو كتابة الخيال العلمي، أو تأليف الروايات والقصص. اليوم ظهرت طائفة من ال Geeks متمركزة في حقل الذكاء الإصطناعي وملحقاته من الحقول البحثية.
من المثير أن نقرأ شيئاً عن علم نفس العبقرية. قد لا يحبّذ أحدنا أن يكون واحداً من ال Geeks ويخسر في المقابل متعته التي يحسب لها ألف حساب. لكن ما أدرانا أنّ متعتنا ليست إلّا هباءة في حساب ال Geek؟ أظنّه يتفاعل مع المتعة بطريقة تختلف نوعياً عن نمط المتع السائدة في عالمنا. الحقيقة البيّنة والتي لا يمكن نكرانُها أنّ معظم صانعي الثورات العلمية والتقنية كانوا Geeks مهووسين بما يعملون، ولولا هذا الهوس لما امتلكوا القدرة والشغف ورغبة المطاولة والمضي بالشوط إلى نهاياته. ستكون فنتازيا لا طعم لها وغير مسوّغة على الإطلاق لو تصوّرنا إمكانية أن ينجز شخص كسول أمراً عظيما وهو غير معتاد على الانغمار في العمل الجاد. الهوس الذي قد يبلغ أحياناً حدوداً مرضية هو شرط لكلّ إنجاز عبقري. هذا ما تقوله الوقائع في الأقلّ.
ربما سيكون أمرا ممتعا ان يندفع المرء لدراسة الترسيمة النفسية والمواصفات العامة لشخصية ال Geeks، والمعاصرين منهم بخاصة. معظم هؤلاء هم أرباب (وادي السليكون) التقنيون الذين يبهروننا كل يوم بمنجزات مثيرة. أشخاص على شاكلة مارك زوكربيرغ أو إيلون ماسك أو بل غيتس أو سام ألتمان أو كثيرين سواهم ربما لم يصبحوا بعدُ مادة للتناول الإعلامي العام. يتشارك هؤلاء مع سابقيهم من المهووسين العباقرة في عصور ما قبل الثورة الرقمية والذكاء الإصطناعي؛ لكنّ خصيصتين إثنتيْن تجعلهم مختلفين نوعياً عن سابقيهم.
أوّل هذه الخصائص هو هجرانهم الدراسة الجامعية الأكاديمية بعد بلوغهم مراتب عليا فيها. زوكربيرغ وغيتس تركوا الدراسة في هارفرد؛ في حين ترك مؤسسا غوغل الدراسة في جامعة ستانفورد الشهيرة. هذا الأمر يؤشّر شجاعة استثنائية لديهم، وإيماناُ لا يتزعزع بقدراتهم الذاتية، ورغبتهم في الإنجاز الإستثنائي المبكّر وهم لا يزالون في عمر الشباب. فعلتهم هذه لا يقدمُ عليها سوى شجعان إستثنائيين يرون صورة المستقبل الذي سيعيدون تشكيله. إنهم رؤيويون وحالمون بالتـأكيد، ولولا قدراتهم الرؤيوية لمضوا في دراستهم الاكاديمية وحصلوا على الدكتوراه وعاشوا حياة الأكاديميا التقليدية الهادئة. هؤلاء يعشقون التحدّيات ولا يستطيعون العيش بعيداً عنها أو بمعزل عن أجوائها الساخنة. هذه الحالة تستوجب إعادة النظر في شكل التعليم الجامعي وما قبل الجامعي؛ إذ ثمّة شعورٌ سائد بأنّه تعليم مبذّر للموارد والزمن ولا يفي بمتطلبات كلّ طالب تبعاً لخصائصه الفردية. التعليم الجماعي حالة سيئة وغير مناسبة لحقوق الفرد في القرن الحادي والعشرين. هكذا يرون الأمر، ولهذا السبب تراهم يشجعون منصّات التعليم الرقمية المجانية التي أظنّها ستقدّم لكلّ طالب المشرف التعليمي -المدعوم بالذكاء الإصطناعي- الذي يناسبه.
ثاني الخصائص هي أنّ مهووسي العصر الحاضر اصبحوا يمتلكون قدرات مالية مليارية، وربما سيصبحون تريليونيرات عمّا قريب، وهم في هذا صاروا يتفوّقون مالياً على دول قائمة في عالمنا. هل تراهم يعشقون المال؟ لا أظنّهم ولا أراهم يتكالبون على المال بل المال هو ما يصبّ في خزائنهم طوعاً. لو أراد أحدهم ترك أعباء العمل ليعيش بقية عمره في جزيرة كاريبية ساحرة لأمكنه ذلك بكلّ بساطة! لماذا لا يفعلون؟ لأنّ هوسهم بالعمل جزء بنيوي وأصيل من سرّ سعادتهم في الحياة. أوقنُ أنّنا لو تركنا أحدهم في الجزيرة الفردوسية الموعودة مع معرفته بعدم قدرته على مغادرتها لقضى موتاً بعد وقت قصير حتى وهو يتنعّم بأطايب الحياة وأقصى ملذاتها المتخيلة التي لم يسمع بها البشر. هؤلاء تختلف قياساتهم للمتعة نوعياً، وهذه موضوعة بحثية تتطلبُ تدقيقاً استشكافياً طويلاً.
لا أريدُ التصريح بطهرانية هؤلاء. من الأسلم والأحْوَط (بلغة المتفقّهين) أن لا نسلّم بطهرانية الكائن البشري؛ لكنّ هذا لا يمنع إمكانية مخالفته للسلوك السفيه أو السائد. هناك مثلاً أناسٌ لا يكذبون ليس لكونهم مؤمنين بل لأنّ الكذب يجعلهم يخسرون سلامهم الداخلي وسكينتهم العقلية الثمينة. أفكّرُ في غيفارا مثلاً. رجل تأهّل ليكون طبيباً وهو سليل عائلة ثرية، ثمّ ترك كلّ المتاع وراءه وانتعل حذاء صلباً ثقيلاً يصلح في حرب العصابات. علينا أن لا ننسى ارتكابه خطايا لاتغتفر ولا تقبلها العدالة عندما كان رئيساً للمحكمة الثورية في كوبا بعد الثورة؛ لكنّ هذا لا يصحّ أن يحجب حقيقة نزاهته وبطولته وعفّته عن سرقة المال العام أو طلب الوجاهة.
لا أحد يعرف تماماً شكل الأنظمة السياسية الصالحة لإستدامة عيش البشر في المستقبل القريب. ربما سيلعب المهووسون التقنيون من أرباب الذكاء الإصطناعي أدواراً غير مسبوقة تساهم في تخفيف العبء الكارثي عن كواهلنا بعد أن خذلتنا الحكومات التقليدية، اليمينية منها واليسارية. ربما سيتلوّث هؤلاء المهووسون بلعنة المال والسلطة فيذيقوننا مرّ العذاب بدكتاتوريتهم الخوارزمية. الأكثر إثارة أن يبلغ الذكاء الإصطناعي العام مرتبة تفوق هوس المهووسين في وادي السليكون فيجعل البشر جميعاً يتساوون في قدراتهم مع أباطرة التقنية الجدد. ربما يستحيل وادي السليكون مركزاً لفاشية عالمية تتخذ قرارات لا يمكننا تخيلها في أسوأ كوابيسنا.
المستقبل مفتوح على إحتمالات عديدة، وليس لنا سوى الأمل بإحتمالٍ يترفّق بالكائنات البشرية وأمّنا الأرض ولا يمضي في خيار مجنون يقضي بالفناء الأبدي للأرض وساكنيها.