إميل بوفييه
ترجمة : عدوية الهلالي
شكّل تتابع الأزمات الأمنية الكبرى في الشرق الأوسط منذ بداية الصراع بين إسرائيل وخصومها الإقليميين في 7 تشرين الأول 2023، تذكيرًا، بعد سنوات من انتهاء حرب الخليج الثانية والهزيمة الإقليمية لداعش في 23 آذار 2019، بمدى احتفاظ الولايات المتحدة بقوة عسكرية كبيرة في الشرق الأوسط على الرغم من فقدانها نفوذها مؤخرًا في المنطقة.
في الواقع، يُقال إن أكثر من 40 ألف جندي أمريكي منتشرون في الشرق الأوسط، في حوالي ثلاثين قاعدة وسفينة حربية مجهزة بمجموعة متنوعة من الأسلحة، مما يمنح واشنطن قدرة شبه فورية وحاسمة في كثير من الأحيان على العمل في المنطقة، كما يتضح من معركة كاشام في شباط 2018 أو، مؤخرًا، حملة الضربات الأمريكية على إيران. ويُعد هذا الوجود متغيرًا أمنيًا وجيوسياسيًا رئيسيًا في المنطقة، وهو نتيجة لاتفاقيات طويلة الأمد مع الدول المضيفة - وخاصة تلك الموجودة في شبه الجزيرة العربية - أو إرث عمليات الانتشار السابقة - وخاصة في الكويت والعراق - والتي أدت إلى بناء قواعد أمريكية واسعة ورؤوس جسور أخرى في الشرق الأوسط.
باعتباره أداةً للقوة الناعمة والصلبة، يبدو أن الوجود العسكري الأمريكي وانتشاره في المنطقة يخضعان لإعادة تشكيل مستمرة، بما يتماشى مع التطورات الجيوسياسية الحالية وتطور الأولويات الاستراتيجية لواشنطن، كما يتضح من التخفيض الحالي للقوات الأمريكية في سوريا أو توسيع قواعد جديدة مثل جنكيز في المملكة العربية السعودية.
ويُعد الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط حديثًا نسبيًا. وفي هذا الصدد، ميّزت فترتان تاريخيتان رئيسيتان المؤسسة العسكرية الأمريكية في المنطقة: مرحلة أولى من المشاركة المعتدلة من عام 1941 إلى عام 1990، تلتها مرحلة ثانية اتسمت بالاستثمار العسكري المكثف من عام 1990 إلى يومنا هذا.
بدأ الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الثانية، وخاصةً بعد دخول الولايات المتحدة الحرب في كانون الاول 1941، إذ أنشأت واشنطن بنى تحتية لوجستية متنوعة، كالطريق السريع الذي يربط خرمشهر بقزوين في إيران، وخطوط السكك الحديدية، ومهابط الطائرات في إيران لنقل المعدات إلى الاتحاد السوفيتي. كما أدت المحادثات، التي بدأت عام 1943، بين السلطات الأمريكية والسعودية، خلال اجتماع بين الرئيس الأمريكي فرانكلين د. روزفلت والملك السعودي عبد العزيز آل سعود في 14 شباط 1945، إلى إنشاء مطار عسكري أمريكي بالقرب من الظهران، على موقع مدرج بنته بالفعل شركة الزيت العربية الأمريكية (أرامكو، الشركة السعودية العملاقة حاليًا). في الواقع، كان الاتفاق بين رئيسي الدولتين (اتفاقية كوينسي، التي سُميت تيمنًا بالسفينة الحربية الأمريكية التي التقى الرجلان على متنها) يتلخص في وعد سعودي بضمان إمدادات نفطية موثوقة للولايات المتحدة مقابل الحماية العسكرية الأمريكية . في أعقاب الحرب الباردة، استثمرت واشنطن في الشرق الأوسط لتعزيز نفوذها ومنافسة الاتحاد السوفيتي، مع ضمان إنتاج النفط وإمداداته .
وهناك ثلاثة أحداث رئيسية دفعت الولايات المتحدة إلى تعزيز وجودها العسكري: الثورة الإيرانية (1979)، التي أسفرت عن خسارة أحد حلفائها الرئيسيين في المنطقة؛ والغزو السوفيتي لأفغانستان (1979)، الذي أثار مخاوف من اقتراب الاتحاد السوفيتي من موارد النفط في الخليج؛ والحرب الإيرانية العراقية (1980-1988)، التي كان لتأثيرها على التدفق الحر للنفط أثرٌ بالغٌ على الاقتصاد العالمي. بعد ذلك، زادت واشنطن من عدد اتفاقيات الدفاع بهدف إرساء تقارب استراتيجي مع دول المنطقة، والوصول إلى بنيتها التحتية البحرية والجوية في حال وقوع أزمة ، وذلك لتعزيز تأمين إمدادات النفط في الشرق الأوسط. ومن عام 1990 وحرب الخليج الأولى (1990 – 1991) بدأ الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط يتخذ شكله الحالي إذ أدى وصول القوات الأمريكية المرسلة إلى الكويت لصد القوات العراقية إلى إنشاء العديد من القواعد التي كانت بمثابة نقاط تتابع لتلك الموجودة حتى اليوم: سيكون معسكر الدوحة على وجه الخصوص بمثابة مقدمة لمعسكر عريفجان الذي بدأ العمل من عام 2003، والذي لا يزال قيد الاستخدام حتى اليوم . في الأشهر والسنوات التي تلت الحرب، قررت الولايات المتحدة الحفاظ على وجودها العسكري: فتم إنشاء الأسطول الأمريكي الخامس في المنامة في عام 1997، بينما قامت قطر في عام 1996، بالاتفاق مع واشنطن، ببناء قاعدة العديد الجوية، والتي بحلول عام 2022 كانت تضم حوالي 8000 جندي أمريكي . إن «الحرب على الإرهاب» التي شُنّت في أعقاب هجمات 11 أيلول 2001، وما تبعها من غزو الولايات المتحدة لأفغانستان (7 تشرين الأول 2011 - 30 آب 2021) والعراق (20 آذار 2003 - 18 كانون الأول 2011)، كانت بمثابة عوامل محفزة لتعزيز القواعد العسكرية الأمريكية ، سواءً لدعم عمليات واشنطن في الشرق الأوسط أو لدعم حلفائها ضد خصومهم الإقليميين، مثل غزو المملكة العربية السعودية لإيران.
ويُعدّ مصطلح «قاعدة» غامضًا للغاية، ويشير إلى أي منشأة عسكرية دائمة أو شبه دائمة دون تحديد دورها، أو قدراتها الهجومية أو الدفاعية، أو حجم الوحدات المنتشرة هناك. وبالتالي، تمتلك الولايات المتحدة عددًا غير معروف من القواعد في الشرق الأوسط: فبينما يصعب تجاهل بعضها، مثل معسكر عريفجان في الكويت، حيث تصطف آلاف المركبات المدرعة ومعدات حربية أخرى في الهواء الطلق، فإن قواعد أخرى، أصغر حجمًا بكثير، غالبًا ما تكون سرية، وغالبًا ما تكون مواقع أمامية تديرها قوات خاصة أمريكية لأغراض استخباراتية، وخاصة في سوريا أو العراق.
في الوقت الحالي، يوجد حوالي ثلاثين قاعدة أمريكية معروفة، وهي ذات طبيعة متنوعة للغاية في قطر، أوفي جيبوتي، وبعضها الآخر أكثر تخصصًا،مثل منطقة الدعم اللوجستي (LSA) جينكينز، في المملكة العربية السعودية. وفي الشؤون البحرية، تمتلك الولايات المتحدة العديد من الموانئ حيث يُسمح لسفنها الحربية بالرسو أو التوقف أو حتى الإصلاح. في موانئ صلالة والدقم في عُمان. أخيرًا، هناك قواعد أخرى في الطرف الجنوبي من سيناء.
ومنذ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض والإطاحة بنظام بشار الأسد في كانون الاول 2024، تعتزم الولايات المتحدة إخلاء معظم قواعدها في سوريا من أجل الاحتفاظ بقاعدة واحدة فقط ، مما يؤدي إلى تقليص عدد جنودها هناك إلى النصف في الأشهر المقبلة؛ وقد تم بالفعل إخلاء أربع قواعد من أصل ثمان قواعد رسمية كانت للولايات المتحدة في البلاد في ذلك الوقت. وستُترك فرقة صغيرة هناك للمشاركة، إلى جانب الأكراد، في القتال ضد عودة ظهور تنظيم الدولة الإسلامية الذي يبدو أنه يضاعف نشاطه في البلاد منذ تغيير النظام . لقد كانت القواعد الأمريكية في العراق، التي استهدفتها كل من إيران والميليشيات الشيعية السورية العراقية، موضع تكهنات كثيرة خلال عام 2024: في الواقع، بناءً على دعوة من الحكومة العراقية، عُقدت مفاوضات بشأن انسحاب القوات الأمريكية من العراق لعدة أشهر، مما أسفر عن اتفاق التزمت بموجبه الولايات المتحدة بضمان مغادرة قوات التحالف ضد تنظيم الدولة الإسلامية البلاد بحلول أيلول 2025 . وبالتالي، كان من المقرر أن تتخلى القوات الأمريكية عن العديد من قواعدها، وفي مقدمتها قاعدة عين الأسد، بمجرد انتهاء الانتخابات الأمريكية . ومع ذلك، ربما يكون تغيير النظام في سوريا قد دفع العراق إلى تغيير رأيه، مؤقتًا على الأقل ، كما يتضح من استمرار وجود الجنود الأمريكيين في قاعدة عين الأسد، التي ورد أنها كانت هدفًا لهجوم صاروخي إيراني محتمل في حزيران. كما يُعدّ الوضع العسكري الأمريكي الهيكلي في الشرق الأوسط، وخاصةً الوضع الذي يواجه إيران في شبه الجزيرة العربية، موضع تساؤلات حول مستقبله وفائدته الفعلية، لا سيما في ضوء الصراع مع إيران في حزيران 2025: في الواقع، تم إجلاء معظم الطائرات المقاتلة المتمركزة في العديد إلى المملكة العربية السعودية قبل أيام قليلة من الهجوم الإيراني على القاعدة القطرية في كإجراء احترازي ، وكذلك السفن الحربية الراسية في البحرين، والتي أُرسلت استباقيًا إلى البحر لتكون أقل عرضة للضربات الصاروخية الإيرانية . ولم تُنفَّذ الضربات الجوية الأمريكية ضد إيران نفسها بطائرات مقاتلة تقلع من قواعد في الشرق الأوسط، وذلك بسبب قدرة الولايات المتحدة على الضرب على مسافات أطول بفضل قاذفاتها من طراز B2 وبسبب التحذير الذي أصدرته العديد من دول الخليج لواشنطن بعدم شن ضربات ضد إيران من أراضيها أو مجالها الجوي. لذا، يدعو البعض في واشنطن إلى إعادة النظر في الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط، وتحديدًا إلى تقليص عدد وحجم قواعدها في المنطقة .