تتجلى في موقف الغرب من البرنامج النووي الإيراني والقضايا الإقليمية الأخرى بصورة ساطعة طبيعة سياسته مزدوجة المعايير، وإصراره على ديمومة المركزية الأوروبية، التي يلوح افولها في الأفق، وتنامي معارضتها دوليا. على سبيل المثال إن الغرب غير متحمس لمبادرة جعل الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الإبادة الجماعية والنووية في مقدمتها، ويحظر على الدول التي لا تمشي بركابه، وتقع خارج منظومته، تبني برامج تطويرية في مجال التكنلوجيات، بما في ذلك الطاقة النووية حتى العلنية والالتزام بأحكام معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. وما يبرهن على هذا في منطقتنا هو تجاهل الغرب الترسانة النووية الإسرائيلية ومخزونها من أسلحة الدمار الأخرى، وانتهاجها سياسة الإبادة الجماعية في فلسطين والقيام بأعمال عدوانية ضد دول وشعوب المنطقة.
وفي هذا السياق أطلقت المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا (الدول الأوروبية الثلاث) آلية إعادة فرض العقوبات الدولية بشكل تلقائي:"سناب باك"، التي تعيد فرض العقوبات على إيران التي رُفعت عام 2015 بموجب "الاتفاق النووي". ويكشف هذا القرار عن إنهاء المفاوضات بشأن "اتفاق نووي" جديد محتمل، ووقف تعاون طهران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وتنص الوثيقة، على وجوب تفعيل آلية إعادة العقوبات قبل 18 تشرين الأول، وهو تاريخ انتهاء صلاحية قرار مجلس الأمن رقم 2231، الذي يتضمن هذا الخيار.
وكانت روسيا قد اقترحت على أطراف الاتفاق تمديد سريان قرار مجلس الأمن رقم 2231 لستة أشهر أخرى حتى 18 نيسان 2026. ووفقاً للممثل الدائم لروسيا لدى الأمم المتحدة، ديمتري بوليانسكي، فإن هذا سيُتيح المجال لإيجاد حل دبلوماسي لهذه القضية. ووقّعت موسكو في كانون الثاني 2025، اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة مع طهران. ويقضي الاتفاق رفضُ مساعدة أي دولة ثالثة في عدوانها. وصادق مجلس الشورى الاسلامي الإيراني على الوثيقة في 11 حزيران، أي قبل ثلاثة أيام من بدء القصف الإسرائيلي.
وكانت صحيفة أكسيوس الأمريكية أول من نشر خبر نيات "الثلاثي الأوروبي" في 28 أغسطس. ويُزعم أن بريطانيا وفرنسا وألمانيا نقلت هذه المعلومات إلى وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو. في الوقت نفسه، ووفقًا لرويترز، أبلغ ممثلو فرنسا وبريطانيا وألمانيا روبيو أنهم ما زالوا يأملون في أن تفي إيران بالتزاماتها بشأن برنامجها النووي بحلول نهاية أيلول. قبل ذلك، علمت وكالة أسوشيتد برس في 27 آب، أن إيران ودول "الثلاثي الأوروبي" لم تتوصل إلى اتفاق بشأن منع استئناف العقوبات عقب محادثات جنيف.
والدول الثلاث، من بين ستة وقعت على خطة العمل الشاملة المشتركة (أو "الاتفاق النووي") لعام 2015: الدول وهي الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، بما في ذلك روسيا والصين والولايات المتحدة، بالإضافة إلى ألمانيا. وتوقفت خطة العمل الشاملة المشتركة فعليًا عن العمل بعد انسحاب الولايات المتحدة منها عام 2018، خلال الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب، الذي كان أول من حاول تفعيل آلية "سناب باك" بعد ذلك. وهددت لندن وباريس وبرلين في نهاية يوليو 2025، بتسهيل استئناف العقوبات على طهران في منتصف تموز بعد أن علقت تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية في أعقاب الضربات الجوية الإسرائيلية والأمريكية على بنيتها التحتية النووية والصاروخية وغيرها من 13 إلى 24 حزيران. ويقول فلاديمير ساجين، الباحث البارز في مركز دراسات الشرق الأوسط بمعهد الاستشراق التابع للأكاديمية الروسية للعلوم، إن قرار تفعيل آلية "سناب باك" مؤشر على وصول مفاوضات الدول الثلاث مع إيران إلى طريق مسدود. وبحسب ما ذكره، فقد دارت نقاشات في المؤسسة العسكرية-السياسية الإيرانية بين مؤيدي استمرار الحوار مع الغرب بشأن البرنامج النووي الإيراني ومعارضيه: "إن قرار تجديد عقوبات" الأمم المتحدة على الجمهورية الإسلامية يُشير إلى انتصار الأخيرة في هذا النزاع.
ومع ذلك، يُؤكد ساجين أن استئناف عقوبات الأمم المتحدة لن يؤدي إلى توقف كامل للمفاوضات بشأن البرنامج النووي الإيراني. وأضاف الخبير: "ستُفرض هذه العقوبات على القيود الحالية، مما قد يُؤثر سلبًا على الاقتصاد الإيراني. لكن عودة العقوبات لها طابع سياسي أكثر، إذ تعلمت طهران خلال فترة القيود الاقتصادية تجاوزها، ومن المرجح أن تواصل عدد من الدول تعاونها مع الجمهورية الإسلامية".
بالإضافة إلى ذلك، رجح المستشرق أن إيران لن تنسحب من معاهدة حظر الانتشار النووي، كما هددت سابقًا: " فانسحابها يُنذر بمخاطر جديدة على طهران، بما في ذلك صراع مسلح جديد مع إسرائيل بدعم من الولايات المتحدة". في الوقت نفسه، لم يُعرف الوضع الحقيقي لمنشآت البرنامج النووي الإيراني، بما في ذلك تلك المتضررة، سوى دائرة ضيقة نسبيًا من الأشخاص داخل إيران، كما يشير يوري ليامين، الباحث البارز في مركز تحليل الاستراتيجيات والتقنيات. ويُعتقد أن البرنامج النووي الإيراني قد لحقت به أضرار جسيمة خلال القصف، لكنه لم يُدمر بالكامل.
ويضيف ليامين: "لا تزال الخلافات حول مدى الضرر الذي لحق بمنشأتي تخصيب اليورانيوم تحت الأرض في فوردو ونطنز مستمرة. وتقع فوردو على عمق حوالي 100 متر في الصخور. كما تمتلك إيران مخزونات من أجهزة الطرد المركزي للتخصيب، ومكوناتها، وتكنولوجيا لإنشاء قدرات جديدة. وهناك أيضًا مخزونات من اليورانيوم المخصب، بما في ذلك حوالي 400 كيلوغرام من اليورانيوم بمستوى تخصيب عالٍ جدًا - حوالي 60% للنظير. حسب البيانات الصحفية.
وعلى الرغم من أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية دعت إلى عدم اعتبار بيانات لجانها وحساباتها المتعلقة بتخصيب اليورانيوم سببًا لنشوب المواجهة في حزيران، إلا أن إيران تعتقد أن لديها من الآن فصاعدًا مبررًا لعدم الثقة بهذه المنظمة، وفقًا لما خلص إليه الخبير. ومع ذلك، ووفقًا للممثل الدائم لروسيا لدى المنظمات الدولية في فيينا، ميخائيل أوليانوف، استأنفت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في نهاية آب، العمل في محطة الطاقة النووية الإيرانية الوحيدة التي بُنيت بمساعدة روسية – بوشهر.
في الوقت نفسه، تسعى إيران إلى تخفيف حدة موقفها: فقد صرّح ممثل وزارة الخارجية الإيرانية في مقابلة مع صحيفة الغارديان بأن طهران مستعدة لخفض مستوى تخصيب اليورانيوم إلى 3.67%، وهو المستوى المحدد في خطة العمل الشاملة المشتركة، شريطة التوصل إلى اتفاق شامل يحفظ حق إيران في تخصيب اليورانيوم .
ماذا ينتظرنا؟ كتبت مجلة الشؤون الخارجية عن هذا الأمر: "إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق، فالحرب حتمية. الخيار الواقعي الوحيد لإيران هو الموافقة على تخصيب محدود تحت رقابة صارمة. يمكن لهذا المسار أن يعزز الاستقرار الإقليمي، ويُقلل من خطر الحرب، ويُبقي على إمكانية تجديد العقوبات والعمل العسكري في حال حدوث انتهاك. ومع ذلك، سيكون التوصل إلى مثل هذا الاتفاق صعبًا للغاية، نظرًا للضغط الداخلي في "إيران والولايات المتحدة والتشاؤم المتجذر".