مفارقات المدونة الجعفرية (1) ضامن الجريرة: إلى الوراء درْ!!
بقلم : علي المدن
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

ورث الإسلام عن البنية الاجتماعية العربية قبل الإسلام جملة من النظم، كان من أبرزها ما يتصل بالنظام الجزائي. فإذا ارتكب أحدهم جناية عمدًا أو خطأً، كانت عشيرته تتحمّل دفع الدية إلى المجني عليه وذويه. وقد أُطلق على هذا النظام اسم العاقلة، أي الجهة التي "تعقل" عن الشخص، بمعنى تدفع عنه الأذى وتحميه.

وتتكوّن العاقلة من أطراف متعددة:

• العصبة، وهم أقارب الرجل من الذكور.

• المعتِق، وهو السيد الذي أعتق عبده.

• ضامن الجريرة، وهو شخص يعقد معه السائبة (= من لا عشيرة له، أو لا ولاء له مع سيده الذي أعتقه) عقدًا يتعهّد بموجبه أن ينصره ويحميه ويتحمّل عنه الدية إن جنى.

• الإمام، وكان في صدر الإسلام متمثّلًا بالنبي نفسه (ثم الأئمة بعده عند المذهب الإمامي).

وكان لهذه العاقلة، مقابل الحماية، بعض الحقوق. منها الإرث، تجسيدًا للقاعدة الفقهية المشهورة: من له الغُنم فعليه الغُرم، أي أن المستفيد من الإرث يتحمّل تبعات الضمان. ولهذا كان الكلام الفقهي في موقع العاقلة ينصبّ أولًا على مسؤوليتها في باب الجنايات، ثم يفرّع منه أثرها في باب الإرث.

الدور الأخطر للعاقلة كان في ضمان الجنايات غير العمدية، أي القتل الخطأ أو شبه العمد. ففي هذه الحالة كانت العصبة أولًا، ثم المعتِق، ثم ضامن الجريرة، وأخيرًا الإمام، هم الذين يتحملون دية المجني عليه. وقد فصّل الفقهاء هذه المسألة واختلفوا في مواردها وأحكامها.

إذا عدنا اليوم إلى القوانين المعاصرة، ولا سيما القانون الجزائي العراقي، فلن نجد أثرًا للعاقلة.

• أما العتق، فانتفى موضوعه بانتهاء نظام الرق.

• وأما العصبة وضامن الجريرة والإمام، فقد حلّ محلّها مبدأ المسؤولية الفردية؛ فالعقوبة شخصية، ولا يتحمل الجناية إلّا فاعلها، وهو وحده الذي يُعاقَب ويدفع ثمن فعله. هذا هو جوهر النظام الحديث المستند إلى الفلسفة الحقوقية المعاصرة.

• حتى في بعض الدول التي أبقت مواد عن العاقلة أو الإمام، كما في إيران، فإنها مواد مهجورة لا يُعمل بها، إذ لا الدولة تدفع الدية عن الجاني، ولا تُلاحق عشيرته، بل تلاحق المتهم نفسه فقط.

في ضوء ذلك، تأتي المادة (321) من المدونة الجعفرية لتقول:

(يجوز لمن ليس له وارث من النسب أن يتفق مع من يشاء على أن يضمن جريرته - أي جنايته - فيقول له: (عاقدتك على أن تعقل عني)، أي تدفع دية جنايتي، فيقول الآخر: (قبلت). فإذا مات الأول ورثه الثاني، أي ضامن الجريرة. وإذا وجد الزوج أو الزوجة مع الثاني كان له نصيبه الأعلى وكان الباقي لضامن الجريرة) .

إن هذه المادة تعيد إحياء نظام "ضامن الجريرة" الذي لا تعترف به بقية المذاهب الإسلامية، بل عدّته من الأحكام التي نُسخت في صدر الإسلام، هذا من جانب.

ومن جانب آخر - وهو الأهم - أن هذه المادة تعني العودة بالأسرة العراقية والفرد العراقي إلى زمن ما قبل الدولة، حين كانت العصبية القبلية هي الضامن الوحيد، ولم تكن هناك قوانين أو مؤسسات أو شركات تأمين. وبذلك تكون المادة (321) ليس فقط مخالفة صريحة للدستور العراقي، الذي يقوم على مبدأ المسؤولية الفردية والعقوبة الشخصية، بل "قهقرى" فاضحة إلى عصور ولّت وانتهت!!!

تنويه: لا يخلط بين ضامن الجريرة وأنظمة الضمان الحديثة؛ لأن هناك فارقا حاسما بينهما، وهو: في شركات التأمين يدفع الشخص اشتراكًا ماليًا مقابل الضمان، أما في ضامن الجريرة فالأمر مجرّد عقد ولاء ثنائي بلا عوض، فتأمل.

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 10-09-2025     عدد القراء :  33       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced