المنصب الدبلوماسي مكافأة لا استحقاق
بقلم : جورج منصور
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

اثار انتباه العراقيين خبر تصويت البرلمان على قائمة السفراء الجدد، إذ إن معظم من شملهم التصويت لتمثيل العراق في 93 دولة لا يملكون أي خبرة دبلوماسية، ولا يحملون مؤهلات أكاديمية مناسبة. المفارقة أنَّ "المؤهَّل" الأبرز لدى كثير منهم هو قرابتهم أو ولاؤهم للأحزاب والكتل السياسية المتحكَمة بالسلطة.

تذكرتُ هنا تصريح الحاكم لمدني للعراق بعد 2003 بول بريمر في مقابلة أجراها مؤخراً مع الصحفي السعودي مالك الروقي، حين قال: كنت محظوظاً بالسياسيين العراقيين الذين عملوا معي بعد سقوط نظام صدام حسين. "لم ألتقِ بسياسيين حقيقيين، بل بأشخاص يفتقر أغلبهم للخبرة، بعضهم كان يسعى وراء المال، وبعضهم الآخر أضاع وقتي لا أكثر".

وكما جرت العادة، جاءت هذه التعيينات وفق نظام المحاصصة الطائفية الذي تبنته الطبقة السياسية الحاكمة منذ 2003، وهو نظام ألحق أضراراً جسيمة بسمعة العراق وتاريخه ومكانته بين الأمم، وأصبح عقبة كبرى أمام تقدمه وازدهاره.

في عالم الدبلوماسية، السفير ليس مجرد موظف عادي، بل هو "وجه الدولة" وناطقها الرسمي، وصانع جسور بينها وبين البلد المضيف. الدبلوماسية الحقيقية تقوم على الكفاءة والثقافة والقدرة على تمثيل الوطن بجدارة. غير أن الواقع العراقي اليوم يشي بمشهد مغاير؛ فقد تحوَّل المنصب الدبلوماسي في كثير من الأحيان إلى مكافأة سياسية أو محاصصة حزبية، أكثر منه استحقاقاً مبنياً على الخبرة والجدارة.

هذا الخلل انعكس على صورة العراق في الخارج، فكثيراً ما يجد المواطن العراقي نفسه أمام سفراء يفتقرون إلى أبسط أبجديات العمل الدبلوماسي. وبدلاً من بناء شبكة علاقات مؤثرة مع صانعي القرار في الدول المضيفة، ينشغل بعضهم بخدمة مصالح أحزابهم أو الاكتفاء بالظهور البروتوكولي في المناسبات الرسمية. والنتيجة: ضياع فرص استثمارية وثقافية وسياسية، كان يمكن أن تعزز موقع العراق الدولي.

الدبلوماسية ليست مكاناً للتجريب ولا محطة للترضية. فهي ساحة تحتاج إلى رجال دولة حقيقيين، يجمعون بين العمق الثقافي والوعي السياسي والقدرة على التكيف مع بيئات معقدة. أما الزج بأشخاص غير مؤهلين في هذه المواقع الحساسة، فهو لعمري، إساءة للعراق وصورته وهيبته على المسرح الدولي.

إن إصلاح وزارة الخارجية يبدأ من إعادة الاعتبار للكفاءة، وإبعاد المحاصصة عن المناصب الدبلوماسية. فالعراق لا ينقصه الكفاءات، لكنه بحتاج إلى قرار سياسي شجاع يعيد للدبلوماسية هيبتها، ويجعل من سفاراته منصات فاعلة، لا عبئاً على الدولة.

في العالم الدبلوماسي، يُعد السفيروجه الدولة الرسمي، ولا يُنتقى لمنصبه إلا من يجمع بين الخبرة، والوعي السياسي، والقدرة على التمثيل اللائق. لكن الواقع العراقي يعكس أحياناً تحوّلاً مأساوياً: تُكسب المناصب كجوائز أو مكافآت سياسية، بعيداً عن الكفاءة والتمثيل المشرف.

هذه الحالات ليست وقائع فردية، بل هي نتيجة طبيعية لنهج اعتمد بشكل متزايد على التعيين السياسي بدل الجدارة، ما حول السفارات من أدوات قوة ناعمة إلى منصات عبثية، تُساء فيها إدارة صورة العراق أمام العالم. والسفير في الأغلب ليس ضحية، بل مرآة لعجز النظام في حماية مصالح الدولة وتمثيلها بمصداقية.

هكذا هي الأمور، حينما تضع الطبقة الحاكمة في العراق مصالحها الضيقة فوق مصالح الوطن والشعب، حيث يصبح الحكم مجرد وسيلة لتقاسم النفوذ والموارد، لا مشروعاً لبناء دولة عادلة. فالسياسة التي كان من المفترض أن تكون ساحة لخدمة الناس، تحولت إلى مضمار للمساومات والمحاصصات، حيث يُقدَّم الولاء الحزبي والطائفي على حساب الكفاءة والنزاهة، ويُستبعد كل من يملك مشروعاً حقيقياً للإصلاح أو التغيير.

لقد انعكست هذه الذهنية على مجمل الحياة العامة؛ الأقتصاد يعيش على الريع النفطي بلا خطط تنمية حقيقية، فيما تتراجع القطاعات الإنتاجية. والخدمات الأساسية من كهرباء وماء وصحة وتعليم بقيت متعثرة رغم مليارات الدولارات التي صُرفت. والمؤسسات أُضعفت عمداً، فصار الموظف والمواطن رهينة شبكات المحسوبية والفساد.

الطبقة السياسية الحالية، وهي تراكم امتيازاتها، تُمعن في تجاهل حقيقة بسيطة مفادها، أن استمرارها بهذا النهج يعني انهيار الثقة بين الدولة والمجتمع، ويدفع نحو مزيد من الانقسامات والاضطرابات. فالشعب الذي يرى ثرواته تُهدر ومصالحه تُداس، لا يمكن أن يبقى صامتاً إلى الأبد.

إن العراق، بتاريخ حضارته العريق وطاقاته البشرية الشابة، لا يستحق أن يُدار بهذه العقلية الضيقة. ما يحتاجه هو مشروع وطني جامع يعيد للدولة هيبتها ولمؤسساتها فعالياتها، مشروع يضع مصلحة الشعب فوق كل اعتبار. غير أن السؤال الملح يبقى: هل تستطيع الطبقة الحاكمة أن تتخلى عن أنانيتها وتلتفت إلى مستقبل البلاد، أم أنها ماضية في طريق يقود الجميع إلى المجهول؟

ففي العراق اليوم، لم تعد السلطة وسيلة لبناء دولة عادلة، بل تحولت إلى غنيمة تتقاسمها الأحزاب المتنفذة وفق منطق المحاصصة والفساد. إن الطبقة الحاكمة وضعت مصالحها الضيقة فوق كل اعتبار، فصارت ثروات البلد تُنهب باسم الديمقراطية، ومؤسسات الدولة تُعطَّل كي تبقى تحت رحمة الولاءات الحزبية والطائفية.

هذه السلطة أثبتت أنها خصم مباشر للشعب، لا ممثل له. فهي لم تبنِ دولة، بل أنشأت شبكات فساد تتحكم بكل مفاصل الحياة. وحين يطالب الناس بحقوقهم، يُقابلون بالقمع أو الإهمال أو الوعود الكاذبة.

إن ما يحدث اليوم ليس مجرد فشل إداري أو ضعف في التخطيط، بل هو جريمة سياسية مكتملة الأركان، ارتكبتها الطبقة الحاكمة بحق بلد وشعب. فالعراق يُدار بعقلية المافيات لا بعقلية رجال الدولة، ولهذا تتفاقم الأزمات بدل أن تُحل، ويستمر النزيف بدل أن يتوقف.

وإذا استمرت هذه السلطة في تجاهل صرخات الناس ومصالح الوطن، فإنها لا تفعل سوى دفع البلاد نحو مزيد من الانهيار وربما الانفجار. التاريخ لن يرحم، والشعب كذلك لن يسكت إلى الأبد.

  كتب بتأريخ :  الإثنين 15-09-2025     عدد القراء :  21       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced