\"المدونة\" غارة سبقتها غارات عديدة
بقلم : لامعة الطالباني
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

مرةً أخرى، يُنتَقصُ حقٌّ مُشرَّعٌ من قانون الأحوال الشخصية، ومرةً أخرى يختار الإسلاميّون أرضَ المعركة وتوقيتها، في حين تتبعثر طاقاتُ القوى العلمانية في احتجاجاتٍ واستنكاراتٍ لا تُوازي حيويةَ واندفاعَ واستراتيجيةَ الطرف الآخر.

الجانبُ الإسلامي يسعى إلى تحقيق مطامحه بدولةٍ إسلاميةٍ عبر سياسة "التقسيط المريح"، أي أنه لا يأتينا بنموذجٍ داعشيٍّ مباشر، بل يرفعُ حرارةَ المشهد تدريجيًا حتى يستتبَّ له الأمر. وهذا من حقهم إن استطاعوا استمالةَ جمهور الناخبين، لأنهم ينطلقون من عقيدةٍ يؤمنون بها ويتصورون أنَّ العدل لن يتحقق إلا عبر هذا المسار.

في المقابل، تفتقر القوى العلمانية، بمختلف أطيافها، إلى نهجٍ استراتيجي مماثل ينطلق من قناعاتها ويرسم صورةً واضحةً للمستقبل الذي تبتغيه. لهذا يحيد بالعلمانيين دراسة أسلوب عمل الجانب الاخر واستباق خطواته،، فضلًا عن الذهاب إلى أبعد من ذلك بوضع كمائن جدلية وسردية وتشريعية تمكّنها من المناورة والضغط المضاد.

وكما هو واضح، فإنَّ القوى الإسلامية تستثمر التأثير المباشر لقانون الأحوال الشخصية على الحياة العملية والأسرية للمواطنين لدفع أجندتها قُدمًا، لذلك علينا أن نضع خطةً لمجابهتها في الميدان نفسه، وأن نأخذ زمام المبادرة عبر تعديلاتٍ ليبرالية جوهرية على القانون الصادر عام 1959.

كانت غارتهم الأخيرة من خلال تشريع المدوّنة الجعفرية، ورأينا ما اعتدنا عليه: استنكارٌ واحتجاجٌ من جانبنا، ثم يعود الإسلاميّون لِيَصِموا أندادَهم بأنهم "دعاةُ العرق والعربدة" وما شابه. يمتلك الإسلاميّون دائمًا "قميصَ عثمان" الذي يستميلون به النزعاتِ المحافظةَ في المجتمع المهووس بمفاهيم "الستر" و"الشرف". لكن في الواقع العملي ايضا، تدرك معظم العائلات العراقية أن هناك ظلمًا كبيرًا يُمارَس تحت ستار هذه الشعارات، وعلينا استثمار هذا الوعي الفطري الذي يميلُ إلى نصرة المظلومين، خصوصًا النساء والأطفال. فهل شغفُ الرجل بالستر أعلى مقامًا من عطفه على ابنته المظلومة؟ نعم، في بعض جرائم "الشرف" نجد أن الجواب للأسف هو نعم، لكن هذا لا ينطبق على الغالبية العظمى من الناس، إذ إنَّ حنانَ الأب على ابنته جزءٌ أصيل من التكوين الفطري للإنسان السوي.

قد انبرى كثيرون لشرح التراجعات الحاصلة تحت المدونة الجعفرية، ولكن أبرزها أنَّ القانون يُكبّل الزوجين ويجعلهما رهينَين لعدم اكتمال أهليتهما الذهنية. فمع السماح بالزواج لمن هم في سن الخامسة عشرة (بموافقة القضاة)، بينما يظلّ سنُّ الرشد القانوني 18 عامًا، تعترف المدوّنة ضمنيًا بأن الزوجين قد يدخُلان الحياة الزوجية وهما غير مُدركَين لمصلحتهما. ومسألة المصلحة الذاتية هنا محورية: نحن لا نسمح للمواطن بالانتخاب أو قيادة السيارة أو حمل السلاح قبل إتمامه 18 عامًا، وهو معيارٌ عالميٌّ تقريبًا، إذ اختير هذا السن على أمل أن يبلغ الشبابُ حدًّا من النضج يمكّنهم من إدراك مصالحهم. لكن المدوّنة تقول إنّ بنتَ الخامسة عشرة وابنَ الخامسة عشرة يملكان حقَّ الزواج، ثم لا يحقّ لهما التراجع بعد ذلك أبدًا. بل الأخطر أن هناك مجالًا ضيقًا يسمح للشابّ بالانسحاب من المدوّنة، بينما لا تملك الفتاة هذا الحقّ مطلقًا. هذا يعني أن المدوّنة تدفع القاصرين لاتخاذ قرارٍ مصيريٍّ سيؤثر على حياتهم بالكامل، بل وعلى حياة أبنائهم وأسرهم في المستقبل، دون منحهم أي فرصةٍ للمراجعة أو التدارك. أليس هذا منفذًا مهمًّا أمام القوى العلمانية لتنبيه العائلات العراقية إلى أن هذا لغمٌ قابلٌ للانفجار في أي لحظة، خصوصًا على بناتهم؟

هناك جانب آخر يزداد وضوحًا يومًا بعد يوم، وهو صلاحيات القضاة في التدخل في شؤون العائلات. لا مفرّ من وجود هذه الصلاحيات، ولكن علينا تحديدها وضبطها، خصوصًا في ظل واقعٍ عام يجعل القضاءَ موضعَ شكٍّ لدى أغلب المواطنين، بعدما تتردّد اتهاماتٌ متكررة حول تسييسه أو فساده أو تمكين المتنفّذين من التلاعب بموازين العدالة. أليس هذا أيضًا مدخلًا آخر لمخاوف العائلة العراقية؟

بل يمكننا الذهاب أبعد من ذلك عبر خطاب جريء واستفزازي يوازي حدّة خطاب الإسلاميّين ضدّنا. فمثلًا: لماذا تصبح "العمامة" شريكًا فيما ترثه الأرملة من زوجها المتوفّى إذا لم يكن لديهما ذرّية؟ فهي لا تنال إلا ربع التركة، بينما تذهب ثلاثة أرباعها إلى "الحوزة"، أو هكذا يُفسّر كثيرون التغييرات الجديدة في المدوّنة. نعم، للحوزة مكانةٌ جليلة في قلوب كثيرٍ من شيعة العراق، لكن هل من المعقول أن الحوزة — وهي تتمتّع بموارد ضخمة من الدولة ومن أموال "الخُمس" — بحاجةٍ إلى أن تُزاحم أرملةً عجوزًا في بيتها الذي عاشت فيه طوال حياتها، بل قد تُجبِرها على بيعه كي تحصل على حصتها من الميراث؟ أين الإنصاف في ذلك؟ أين الرحمة؟

كما أن السجال حول المدوّنة يُنبّهنا إلى أن قانون الأحوال الشخصية نفسه بحاجةٍ إلى مراجعات جذرية تعالج ثغراته العديدة وتواكب التغيّرات الاجتماعية الكبرى التي شهدها العراق منذ إقراره قبل ثلاثة أرباع القرن تقريبًا، حيث تحوّل المجتمع العراقي من أغلبيةٍ ريفية إلى أغلبيةٍ مدينية.

قبل عشرين سنة، في حزيران/يونيو 2005، ألقيتُ خطابًا عن قانون الأحوال الشخصية. قلت وقتها إن هذا القانون هو خطّنا الأحمر في مواجهة قوى التطرّف، وأقترحتُ على القوى التنويرية باتخاذه قاسمًا مشتركًا أدنى لتوحيد الصفوف وتنظيم الجهود في مواجهة التيار المعارض. كان الجدل وقتها يدور حول صياغة الدستور، ورأيي كان أن نصوغ ميثاقًا وطنيًا عنوانه الدفاع عن قانون الأحوال الشخصية، بحيث نجعل هذا الموضوع نقطة خلاف مركزية مع القوى المتطرّفة ونقطة جذب للشباب.

اليوم، أغلب هؤلاء الشباب الذين وُلدوا في العقدين الماضيين أصبحوا مؤهَّلين للزواج وتكوين أسر والمشاركة في التصويت. فما أثر الخطاب العلماني فيهم؟

لقد قلتُ وقتها: "لا تراجع عن المكتسبات السياسية التي تم تشريعها وأولها قانون الأحوال الشخصية للعام 1959 ، هذا القانون هو الخط الأحمر وخط الدفاع الأخير لنا ، فعلينا أن نسعى لا فقط للدفاع عنة وإنما لرفع كافة التعديلات المحافظة التي طرأت علية منذ نهاية الستينيات والعودة للنص الأصلي في القانون، علينا أن نعمل أيضا لتعديل بعض البنود المجحفة بحق المرأة وخاصة ما يخص بتعدد الزوجات والميراث وغيرها. ان هذا القانون أهم مكسب للمرأة العراقية وللروح السياسية الليبرالية ويضاهي التشريعات الليبرالية العالمية المتقدمة.

  كتب بتأريخ :  الإثنين 15-09-2025     عدد القراء :  21       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced