في عام 2024، استورد القطاع الخاص العراقي نحو 12.5 مليار دولار من الذهب وفق بيانات الجمارك الإماراتية، وهو تقريبًا أربعة أضعاف قيمة استيرادات 2023 التي بلغت حوالي 3.2 مليار دولار. هذا الرقم الضخم يطرح تساؤلات جادة حول سلوك المستثمرين والأفراد، وأسباب تحويل جزء كبير من الأموال إلى سلعة غير منتجة بدل الاستثمار في الإنتاج والتنمية.
في المقابل، سجل البنك المركزي العراقي مشتريات رسمية بلغت 20.1 طنًا في 2024، مقارنة بـ12.3 طن في 2023 و33.9 طن في 2022، وفق بيانات World Gold Council (WGC)، لتعزيز الاحتياطي الرسمي للبلاد الذي بلغ حوالي 162 طنًا أواخر 2024. ومن المهم التأكيد أن الرقم 12.5 مليار دولار يخص القطاع الخاص حصريًا، ولا يشمل مشتريات البنك المركزي.
استيراد بما يقارب 12 مليار دولار من الذهب في عام واحد رقم ضخم جدًا لاقتصاد مثل العراق. هذا يعادل 73% من إجمالي الإنفاق الاستثماري الحكومي لذات السنة،رقم قياسي بهذا الحجم لا يعكس فقط توجه العراقيين نحو الملاذات الآمنة بدل الاستثمار في الإنتاج والتنمية، بل يسلط الضوء على ثغرات كبيرة في الرقابة المالية والاقتصادية.
الذهب كأداة للتحوط أم لغسيل الأموال؟
لا يمكن تفسير استيراد الذهب بهذا الحجم على أنه مجرد وسيلة للتحوط المالي، فالأثرياء يدركون أن الاحتفاظ بالذهب يجمد أموالهم ولا يدر أرباحا مباشرة، ما يجعل الادعاء بأن هذه الاستراتيجية تمثل تحوطًا اقتصاديًا مستدامًا بعيدًا عن المنطق."
كذلك لا يمكن الاعتماد على الذهب كوسيلة للدفع بديلاً عن الدولار مع الدول الأخرى، لأن الاستيراد يتم غالبًا بالدولار نفسه، واستخدام الذهب لا يقلل الطلب على الدولار بل يضيف تكلفة إضافية للنقل والتأمين والتخزين. هذا يدحض فكرة أن الذهب وسيلة لتجنب الاعتماد على الدولار أو التعامل مع الدول المحظور مصرفيًا، لأن التحديات اللوجستية والتحويلية تجعل هذا الخيار أقل كفاءة من التعامل المباشر بالدولار.
الأرجح أن غياب الشفافية في مسارات الذهب بعد دخوله العراق يعزز الشكوك حول استخدامه في عمليات مالية مشبوهة، خصوصًا إعادة تصديره إلى الإمارات ودول مجاورة للاستفادة من فروقات الأسعار وسعر الصرف، فالذهب، بهذه السعة، يصبح أداة مثالية لغسيل الأموال والتحايل على القوانين المالية والضريبية، بما في ذلك تحويل الأموال غير المشروعة إلى أصول ملموسة يمكن إعادة بيعها أو تحويلها بسهولة.
الاستهلاك المحلي مقابل التصدير
رغم حجم الاستيراد الكبير، يظل الاستهلاك المحلي للذهب محدودًا نسبيًا. وفقًا لتقرير وزارة التجارة العراقية، بلغ إجمالي صادرات العراق من الذهب في عام 2023 حوالي 1.3 مليار دولار أمريكي، مع تصدير أكثر من ثلث هذه الكمية إلى الإمارات العربية المتحدة. في المقابل، بلغ إجمالي واردات العراق من الذهب في نفس العام حوالي 2.2 مليار دولار أمريكي، ما يشير إلى أن جزءًا كبيرًا من الذهب المستورد لا يُستهلك محليًا، بل يُعاد تصديره إلى دول مجاورة للاستفادة من فروقات الأسعار وسعر الصرف.
المخاطر الاقتصادية
1. استنزاف العملة الصعبة: إذا كان الذهب يُستورد ويُعاد تصديره أو يُهرَّب، فهذا يعني نزيفاً مباشراً للاحتياطي من الدولار.
2. تراجع الثقة بالقطاع المصرفي: الإقبال على الذهب كبديل عن الادخار في البنوك يعني تعطيل قدرة هذه الأخيرة على تمويل الاقتصاد.
3. جزء كبير من هذه التدفقات قد يُستخدم لغسيل الأموال، التهرب الضريبي، والتحايل على الرقابة المالية، ما يزيد من هشاشة الاقتصاد ويقوض الثقة في المؤسسات.
تجاهل الحكومة لهذه الظاهرة يعني استمرار الاقتصاد العراقي في دائرة استهلاك الموارد وتكديس الثروات خارج النشاط الإنتاجي، مع انعكاسات محتملة على التضخم، سعر الصرف، والاستقرار المالي العام. الذهب في العراق اليوم ليس مجرد سلعة استهلاكية، بل يعكس مؤشرات على هشاشة بعض جوانب الاقتصاد والممارسات المالية، ويستدعي مراقبة وإدارة دقيقة لتفادي مخاطر أكبر على الاستقرار الاقتصادي.