العِلوم تدفع ثمن حماقة الرؤساء..أفـول مـمـلكـة الـعـِـلم
بقلم : لطفية الدليمي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

روس أندرسن*

ترجمة: لطفية الدليمي

القسم الأوّل

شهد روالد ساغدييف Roald Sagdeev انهيار إمبراطورية علمية من الداخل. عندما بدأ ساغدييف مسيرته المهنية عام 1955 كان العلم في الإتحاد السوفييتي يقترب من ذروته. في معهد كورتشاتوف بموسكو درس ساغدييف التفاعلات النووية الحرارية التي تحدث داخل النجوم، وعلى مبعدة بضع طاولات مختبرية منه كان أندريه ساخاروف Andrei Sakharov يطوّر القنبلة الهيدروجينية. سرعان ما أذهل برنامج الفضاء السوفييتي العالم بإطلاقه أول قمر صناعي، ثم أوّل إنسان، إلى مدار فضائي حول الأرض، ولم يزلْ ساغدييف يتذكرُ صيحات الجماهير التي استقبلت رواد الفضاء العائدين في الساحة الحمراء. لكنْ برغم كل هذا، وحتى خلال سنوات الإنتصار العلمي تلك، كان ساغدييف يرى الفساد يتسلل إلى العلم السوفييتي مثل سُمٍ بطيء الإنتشار.

كان الخطر قائمًا منذ بواكير تأسيس الإتحاد السوفييتي. أراد البلاشفة الذين تولّوا السلطة عام 1917 إرسال العلماء إلى معسكرات العمل في القطب الشمالي. (تدخّل فلاديمير لينين ودافع عنهم). عندما تولى جوزيف ستالين السلطة موّل بعض الأبحاث بسخاء؛ لكنّه أراد أن تتوافق سياسة البحث العلمي مع أيديولوجيته الشيوعية. قال ساغدييف إنّ كتبه المدرسية عندما كان تلميذًا في المدرسة وصفت ستالين بأنّه أبو جميع مجالات المعرفة!!!، ونسّبت الفضل للسوفييت في كل اختراع تقني تم بلوغه على الإطلاق. لاحقًا، في المؤتمرات العلمية، سمع ساغدييف فيزيائيين ينتقدون مبدأ عدم اليقين في ميكانيك الكمّ على أساس تعارضه مع أصول الفلسفة الماركسية.

مع حلول عام 1973، عندما عُيّن ساغدييف مديرًا لمعهد أبحاث الفضاء السوفييتي - وهو المركز الرئيسي لعلوم الفضاء في البلاد- كان السوفييت قد تنازلوا عن القيادة في المدار لوكالة ناسا الأمريكية. طار رواد الفضاء الأمريكيون حول القمر وتركوا ألف بصمة حذاء على سطحه في وقت كان فيه معهد ساغدييف يعاني من نقص التمويل. كان لدى العديد من العاملين فيه صلاتٌ وثيقةٌ بالحزب الشيوعي؛ لكنهم لم يتلقّوا تدريبًا علميًا رصينًا أو حتى كافيًا. في النهاية اضطر هو نفسه للإنضمام إلى الحزب. قال لي عندما تحدّثنا في يونيو (حزيران) الماضي: "كانت هذه هي الطريقة الوحيدة لتأمين تمويل مستقر".

في عام 1985 حاز ساغدييف لفترة وجيزة على مكانة مرموقة في السلطة. كان ميخائيل غورباتشوف قد تولّى لتوّه منصب الأمين العام في سن الرابعة والخمسين، وهو شابٌّ بالنسبة لحكم كبار السن من القادة السوفييت السابقين له. وعد غورباتشوف بإصلاحات واسعة وعيّن ساغدييف مستشارًا له. سافر الإثنان إلى جنيف معًا لحضور أولى محادثات غورباتشوف حول مباحثات الحدّ من الأسلحة النووية التكتيكية والستراتيجية مع رونالد ريغان؛ لكنّ نظرة ساغدييف لغورباتشوف بدأت تتضاءل عندما عيّن رئيس الوزراء رجالًا اعتبرهم ساغدييف مقربين منه (أي من رئيس الوزراء) في مناصب علمية مهمة.

في عام 1988 كتب ساغدييف رسالة إلى غورباتشوف يُحذّره فيها من خداع قادة برنامج الحاسوب العملاق السوفييتي له. زعموا أنّهم يُواكبون الوتيرة المتسارعة للولايات المتحدة في ميدان الحواسيب العملاقة؛ لكنهم في الواقع كانوا متخلّفين عنها كثيرًا، وسرعان ما سيتفوق عليهم الصينيون لاحقًا. لم يُجِبْ غورباتشوف على رسالته قطُّ. تلقى ساغدييف لمحة عن كيفية استقبال رسالته عندما سُحِبَتْ دعوتُهُ للإنضمام إلى زيارة دولة إلى بولندا فجأة. قال لي: "لقد طُرِدْتُ من الكنيسة".

أجرى ساغدييف تقييمًا لوضعه حينذاك. كان مستقبل العلوم السوفييتية يبدو قاتمًا، وفي نحو بضع سنوات شهد التمويل الحكومي مزيدًا من التراجع. بدأ أكثر زملاء ساغدييف موهبةً بالهروب من البلاد واحدًا بعد الآخر، شاهدهم يبدأون حياة جديدة في أماكن أخرى، وقد ذهب العديد منهم إلى الولايات المتحدة. في ذلك الوقت كانت أمريكا الوجهة الأكثر جاذبية للمواهب العلمية في العالم، وظلت كذلك حتى أوائل هذا العام 2025.

تذكّرْتُ ساغدييف في زيارتي الأخيرة لمعهد ماساتشوستس للتقنية MIT. أخبرتني عالمةٌ هناك، مشهورةٌ في مجالها، أنها منذ تنصيب دونالد ترامب للمرة الثانية وهي تشاهد برعبٍ كيف تُلحق إدارته ضررًا مُدبّرًا بالعِلْم الأمريكي. ومِثْلَ العديد من الباحثين الآخرين في الولايات المتحدة فهي غير متأكدةٍ من رغبتها في البقاء لتجنّب الحطام المتساقط، ولذلك بدأت تُفكّر في نقل مختبرها إلى الخارج. (رفضت ذكر إسمها في هذه القصة حتى تتمكّن من التحدّث بصراحةٍ عن خططها المُحتملة).

أفضلُ العلماء في العالم هم أشبه بنخبة لاعبي كرة السلة: يأتون إلى أمريكا من جميع أنحاء العالم ليقضوا سنواتهم الذهبية في العمل جنبًا إلى جنب مع أفضل المواهب. أخبرَني مايكل غوردن Michael Gordin، مؤرّخُ العلوم وعميد قسم الدراسات الجامعية في جامعة برينستون: "من العسير جدًا العثورُ على عالم بارز لم يُجرِ ولو بحثًا واحدًا في الولايات المتحدة كطالب جامعي أو دراسات عليا أو باحث ما بعد الدكتوراه أو عضو هيئة تدريس". قد لا يكون هذا هو الحال بعد جيل من الآن.

أصبح الباحثون الأجانب مؤخرًا يشعرون بعدم الترحيب في الولايات المتحدة؛ فقد كانوا خاضعين للمراقبة والمضايقة المشدّدة، وعقّدت إدارة ترامب على مؤسسات البحث إجراءات قبولهم، ووُضِعَت جامعات مرموقة تحت التحقيق الفيدرالي، وهُدّدَ اعتمادُها المالي وإعفاؤها من الضرائب. في جانب آخر اقترحت إدارة ترامب تخفيضات حادّة في ميزانية الوكالات التي تموّلُ العلوم الأمريكية - مثل مؤسسة العلوم الوطنية (NSF) والمعاهد الوطنية للصحة (NIH) ووكالة ناسا، وغيرها - وسرّحت عددًا كبيرًا من الموظفين. كما أُلغيت منحٌ بحثيةٌ قائمة أو عُلّقت بشكل جماعي، فضلًا عن حلّ لجان العلماء الخبراء التي كانت تُقدّم المشورة للحكومة سابقًا. في مايو (أيّار) 2025 أمر الرئيس بأن تستوفي جميع الأبحاث الممولة اتحاديًا معايير أشدّ تحديدًا في طبيعتها وإلا ستكون عُرْضة للتصحيح (بمعنى التقليل أو الحجب، المترجمة) من قِبَل أشخاص ذوي سلطة سياسية بعيدين عن السياسات الأكاديمية.

لم يكن العلم الأمريكي خاضعًا للأيديولوجية السياسية إلى هذا الحد منذ فترة "الهلع الأحمر Red Scare"، حين اضطر باحثون في جامعة كاليفورنيا إلى توقيع يمين الولاء، وتعرّض باحثون في جامعة واشنطن ومعهد ماساتشوستس للتقنية للتأديب أو الطرد للإشتباه بإنتمائهم للشيوعية (اشارة إلى الحقبة المكارثية التي اشتدّت أواسط خمسينيات القرن العشرين، المترجمة). لكن في الأقلّ كان بإستطاعة العلماء في الحقبة المكارثية التماسُ المواساة لأنفسهم في أنّ الإنفاق الفيدرالي على العلم والتقنية، وبرغم كلّ السياسات التدخّلية، كان في ازدياد مضطرد. أما اليوم فهو آخذٌ في النضوب السريع.

أفاد ثلاثة أرباع العلماء الأمريكيين الذين شاركوا في استطلاع رأي أجرته مجلة "Nature" مؤخرًا أنهم يفكّرون في مغادرة البلاد. إنّهم لا يفتقرون إلى من يسعى حثيثًا للإفادة من خدماتهم. الصين تستقطبهم بقوة، وقد خصّص الاتحاد الأوروبي 500 مليون يورو كصندوق دعم مالي للقيام بمثل ما تقوم به الصين. منحت الحكومات الوطنية في النرويج والدنمارك وفرنسا - وهي أماكن رائعة للعيش - الضوء الأخضر لموجات الإنفاق على العلماء الأمريكيين المحبَطين، كما أطلق معهد ماكس بلانك، وهو مؤسسة بحثية نخبوية ألمانية رصينة، مؤخرًا حملةً لجذب الباحثين الأمريكيين إلى ألمانيا. وفي الشهر الماضي عقدت جامعة إيكس مرسيليا الفرنسية مؤتمرًا صحفيًا أعلنت فيه عن وصول ثمانية "لاجئين علميين" أمريكيين.

أخبرتني عالمة معهد ماساتشوستس للتقنية (MIT) -التي أوردتُ ذكرها سابقًا والتي تفكّرُ في مغادرة الولايات المتحدة- أنّ المركز العلمي السويسري القوي، المعهد الفيدرالي السويسري للتقنية في زيورخ ETH Zurich، قد تواصل معها بالفعل بشأن نقل مختبرها إلى حرمها الجامعي الخلّاب المطلّ على جبال الألب، كما تواصلت جامعة كندية مرموقة معها. هذه المؤسسات مُغرمَةٌ بالمواهب الأمريكية، وغير الأمريكية. لم تُتَحْ فرصةٌ كهذه لتجنيد أعدادٍ كبيرة من الباحثين منذ أن سعى ساغدييف وغيره من الباحثين السوفييت النخبويين إلى مغادرة موسكو.

تسقط كل إمبراطورية علمية، ولكن ليس بنفس السرعة، أو لنفس الأسباب في كلّ مرّة. في سومر القديمة ازدهرت حضارة علمية بدائية في مدينتي أور وأوروك العظيمتين. اخترع السومريون العجلات التي حملت عربات الملك الحربية بسرعة عبر سهول بلاد ما بين النهرين، ووقف كهنة السومريين فوق الزقورات يراقبون السماء؛ لكن يبدو أن السومريين أفرطوا في ري أراضيهم الزراعية - ربما كانت خطوة تقنية خاطئة -، وبعد ذلك غُزيت مدنهم الضعيفة، وتفككت مملكتهم. لم يَعُدْ بمقدورهم العملُ في الطليعة العلمية.

اتّبع العلم في مصر القديمة واليونان نمطًا مشابهًا: ازدهر في الأوقات الجيدة وتراجع في فترات الطاعون والفوضى والإفقار. لكن لم تكن كل حالة من حالات التراجع العلمي بهذه الطريقة؛ فقد أهدرت بعض الحضارات قصدًا تفوقها العلمي. على سبيل المثال، عانى العلم الإسباني بشدة خلال محاكم التفتيش. خاف العلماء على حياتهم. تراجعوا عن الأنشطة والجمعيات ذات الصبغة العلمانية، وترددوا مليًا قبل مراسلة مَنْ يُشتبهُ في كفرهم. تباطأ تبادل الأفكار في إسبانيا، وتراجع تميزها البحثي مقارنةً ببقية أوروبا. في القرن السابع عشر لم يُسهم الإسبان تقريبًا في الثورة العلمية الجارية.

عرقل السوفييت نجاحهم في الطب الحيوي. في عشرينيات القرن الماضي كان لدى الإتحاد السوفييتي أحدُ أكثر برامج علم الوراثة تقدمًا في العالم؛ ولكنّ ذلك كان قبل أن يُمكّن ستالين ليسينكو Lysinko، المُعيّن سياسيًا والذي لم يؤمن بالوراثة المندلية، من منصبه. في نهاية المطاف طرد ليسينكو آلاف علماء الأحياء المرتدّين من وظائفهم، وحظر دراسة علم الوراثة المندلية حظرًا تامًا. أُلقي بعضُ العلماء في معسكرات العمل السوفييتية؛ بينما جُوّع آخرون أو واجهوا فرق الإعدام. ونتيجةً لكل هذا لم يلعب السوفييت أي دور في اكتشاف بنية الحمض النووي الحلزونية المزدوجة. عندما رُفع الحظرُ على علم الوراثة "المناهض للماركسية" أخيرًا، أخبرني غوردن أنّ الإتحاد السوفييتي كان متأخرًا بجيل كامل في علم الأحياء الجزيئي Molecular Biology، ولم يستطع اللحاق بالركب بعد ذلك.

يتبع...القسم الثاني

* روس أندرسن Ross Andersen: كاتب في مجلة "ذا أتلانتيك The Atlantic" الأمريكية. شغل سابقًا منصب نائب رئيس تحرير المجلة. عمل مراسلًا صحفيًا في روسيا والصين والهند وباكستان وكوريا الجنوبية واليابان وغرينلاند، وهو أيضًا مؤلف كتاب "البحث الطويل The Long Search" الذي سيصدر عن دار نشر راندوم هاوس Random House. (المترجمة)

- الموضوع المترجم أعلاه منشور في مجلّة The Atlantic الأمريكية بتأريخ 31 تموز (يوليو) 2025. العنوان الأصلي للموضوع باللغة الإنكليزية هو:

Every Scientific Empire Comes to an End

  كتب بتأريخ :  الخميس 18-09-2025     عدد القراء :  15       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced