زينب تكتب عن والدها جواد سليم وتجمع أعماله في كتاب
بقلم : ميسون الدملوجي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

بعد مرور اكثر من ستة عقود على رحيل فنان العراق الكبير جواد سليم، صدر فهرس يضم دراسة موسعة عن حياته واعماله باللغة الإنكليزية قامت بجمعه وتحريره ابنته زينب بالتعاون مع الخبير في الفن الإسلامي (إيراني الأصل) السيد نيما سغرجي، يضم عدة مقالات عن مسيرة جواد والتأثيرات الفنية والاجتماعية على أعماله.

ولم تكن مهمة جمع الأعمال سهلة نظراً لغياب الأرشفة والتوثيق واعتماد المحررين على ما دونته زوجته الفنانة لورنا، وما تركه الفنان من رسائل ومذكرات، بالإضافة إلى معلومات جمعت بعناية من قبل معاصريه واصدقائه، أو ما تبقى من عوائلهم. وضاعت الكثير من أعماله في داخل العراق أو في دول العالم المختلفة على مر السنوات وبلا أثر.

ولا بد من التوقف قليلاً عند ظاهرة غياب التوثيق التي لا تقتصر على أعمال الفنان جواد سليم وإنما تمتد للفن التشكيلي العراقي بشكل عام، والى فن العمارة، وعلى المستويين الفردي والمؤسسي. وفي مناخ سياسي واجتماعي متقلب خسر العراق الكثير من الأعمال المهمة دون ان توثق، ومن الواجب اليوم ان نطالب مؤسسات الدولة ووسائل الاعلام ومنظمات المجتمع المدني، بالإضافة إلى الفنانين انفسهم إلى جمع الأعمال وتوثيقها قبل ان تغيب عن الذاكرة كلياً.

يحمل الكتاب عنوان (جواد سليم؛ فهرس أعمال في الرسم والنحت Jewad Selim; Catalogue Raisonné of Paintings and Sculptures)، للناشر سكيرا الإيطالي. ويفتتح سغرجي بكلمة تحمل عنوان "حياة جديدة" يروي فيها عن ولادة جواد عام 1919 والتي سبقت نشوء الدولة العراقية بعامين، وإحساسه مبكراً بمسؤولية احياء الثقافة في بلده الوليد صاحب الحضارة العريقة والمدن العظيمة مثل نينوى والحضر وبابل، وضرورة محاكاة الموروث الفني الضائع في المخطوطات الإسلامية للرسام البغدادي يحيى الواسطي، ليصنع من خلال الحداثة هوية معاصرة للفن في العراق.

مقدمة الكتاب لأستاذة تاريخ الفن في جامعة تكساس د. ندى الشبوط أكدت فيها ان جواد لم يوظف الحداثة في المزج مع الفن الإسلامي والرافديني فحسب، وإنما نجح في استحداث أيقونات في محاكاة مبادئ اختزال الزخرفة والحكايا والرموز بشكل معاصر. وبالاضافة الى سعة اطلاعه على الفن الأوروبي، كان جواد على دراية كبيرة بموروثه الوطني، مما جعله محلياً وحداثياً في ذات الوقت.

وتذكر الشبوط ان جواد كان طرفاً في التحديات التي خاضها جيل الخمسينيات في بغداد، والتي شملت كل جوانب الحياة الثقافية والفكرية، ومنها الشعر والعمارة والمسرح. ومن خلال انضمامه إلى جماعة الرواد، وبعدها تأسيس جماعة بغداد للفن الحديث مع شاكر حسن ال سعيد، خاض جواد في البحث عن صيغة متوازنة بين الهوية الوطنية الناشئة والخطاب الحداثي الأوروبي.

مقالة بعنوان "رؤية جواد لفنه" قسمت فيها ابنته زينب حياته المهنية إلى ثلاثة مراحل. المرحلة الأولى تمتد في عقدي الثلاثينيات والأربعينيات، وفي بداية دخول الفكر الحداثي في الفن العراقي الذي كان مرتبطاً بشكل كبير بالأساتذة العثمانيين الاوائل. انضم جواد في هذه الحقبة إلى جماعة أصدقاء الفن وبعدها جماعة الرواد. وركز جواد في هذه الفترة على الأعمال الزيتية، ورسم الطبيعة والأشياء الجامدة، والبورتريه للأشخاص رسماً ونحتاً، متأثراً بالفن الأوروبي، والفرنسي تحديداً.

المرحلة الثانية من حياة جواد الفنية تمتد من عام 1950 إلى 1957، حيث تمكن من تطوير هويته الخاصة في الفن. وكان جواد مهتماً في هذه المرحلة بجعل أعماله أكثر شعبية وترابطاً مع الجمهور والابتعاد عن فن الصالونات الذي يحتكره الأغنياء. وعمل على المزاوجة بين تقنيات الحداثة التي تعلمها أثناء دراسته في فرنسا وبريطانيا وبين الثقافة والتقاليد المحلية، ومنها الموروث الرافديني الذي تعرف عليه بشكل وثيق من خلال عمله في المتحف العراقي، بالإضافة إلى تأثره بأعمال الواسطي. وأسس في هذه المرحلة مع تلميذه النجيب شاكر حسن ال سعيد جماعة بغداد للفن الحديث.

المرحلة الثالثة تمتد من عام 1957 حتى وفاته عام 1961، وتتميز بعلاقته مع معماريين عراقيين، مثل د. محمد مكية ورفعة الجادرجي. مكنته هذه العلاقة من التعاون والمشاركة لجعل فنه متاحاً لكل المواطنين، وكانت ثمرتها نصب الحرية، أو نصب 14 تموز كما كان يطلق عليه انذاك.

كما وضعت الكاتبة تسلسلاً لانتماء جواد إلى المدارس الفنية، من جمعية أصدقاء الفن في بداية مسيرته، وجماعة الرواد في الأربعينيات، وجماعة بغداد للفن الحديث التي أسسها عام 1951 مع الفنان شاكر حسن ال سعيد وإنتهاءً بجمعية الفنانين التشكيليين برئاسة المعمار د. محمد مكية عام 1956.

وفي نهاية الدراسة تعيد زينب قراءة عناصر نصب الحرية، بالاعتماد على ملاحظات جواد الشخصية التي دونها على تخطيطاته للنصب تارة، وفي دفاتر مذكراته تارة أخرى، وهي بمجملها مقاربة لما قدمه الناقد جبرا إبراهيم جبرا في كتابه عن النصب.

مقالة الباحث سليم البهلولي عنوانها "استعادة التاريخ: فنان حداثي في بغداد يتقابل مع موروث منسي في الرسم"، يتحدث الكاتب فيها عن تأثير الرسام العباسي يحيى الواسطي على مسيرة جواد الفنية. وكانت الدولة قد ابتعثت جواد لدراسة الفن في باريس عام 1938، إلا انه اضطرّ للعودة إلى بغداد بعد اشهر قليلة عام 1940 بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية. وبالصدفة تقع عيناه في بغداد على مجلة فرنسية كان يحملها صديقه وأستاذه الفنان عطا صبري تتضمن مقالة وصور لأعمال الواسطي الذي لم يكن قد سمع به جواد وأغلب معاصريه من قبل.

انتشرت في بغداد ومنذ القرن الحادي عشر الميلادي قصص مرفقة برسومات أطلق عليها مقامات، تتحدث عن مغامرات وأسفار لشخصيات خيالية. وكان من بينها مقامات الحريري التي قام يحيى الواسطي برسمها بما يكشف حياة البغداديين اليومية في تلك الحقبة، رجالاً ونساءً، ومبانيهم ومجالسهم ووسائط النقل وغيرها. وللأسف ضاعت مئات المقامات بعد سقوط بغداد على يد هولاكو في القرن الثالث عشر، وضاع معها تقليد كتابتها ووضع الرسوم لها. وشاء القدر ان تنجو مقامات الحريري من التلف، وانتهى بها المطاف بعد عدة قرون من الزمن إلى المكتبة الوطنية في باريس حيث تحفظ إلى يومنا هذا.

ويشير البهلولي ان رسومات الواسطي قدمت اساساً بنى عليه جواد أسلوبه في الحداثة، وحولت نظرته للفن إلى اعادة احياء تقاليد منسية، بدلاً من تقليد التجربة الاوربية. إلا ان التحدي يكمن في كيفية جسر الهوة الزمنية بين القرنين الحادي عشر والعشرين، بل آلاف السنوات التي تفصل الفنان عن إبداعات الموروث الرافديني.

وفي الحرب العالمية الثانية مرت في العراق جيوش كثيرة من الحلفاء، وبالصدفة كان من بينهم ضباط بولنديون كانوا قد درسوا وامتهنوا الفن التشكيلي قبل الحرب. استقر البولنديون في بغداد مدة ستة اشهر، وتعرفوا على الحركة الفنية الناشئة، ودارت نقاشات كثيرة تعرف من خلالها جواد بشكل اكبر على استخدام الرمزيات واللون، مما فتح الأفق لترجمة أعمال الواسطي من خلال الكتل اللونية. ولقد كتب جواد بإسهاب عن تجربته مع البولنديين في رسائل إلى صديقه خلدون الحصري.

ازدادت المواضيع التي اصبح يتناولها جواد تنوعاً في السنوات الأولى من الأربعينيات، وأصبح اهتمامه بالهموم الإنسانية اكثر وضوحاً. فعلى سبيل المثال، رسم جواد مأساة ظاهرة الفتاة التي تهرب من أهلها في الريف إلى بغداد وتضطر إلى ان تبيع جسدها من اجل لقمة العيش، والفتاة التي يمضي عمرها في انتظار من يتقدم اليها للزواج، وغيرها من يوميات البشر والمدينة التي أصبحت ميزة لأعماله فيما بعد.

ويحدثنا البهلولي عن سفر جواد إلى لندن بعد انتهاء الحرب لدراسة النحت، والصراع في داخله بين الرسام والنحات. ويعود باحثاً عن " الشخصية المحلية" في الفن، مما يبعده عن جماعة الرواد، ويدفعه إلى تأسيس جماعة بغداد للفن الحديث مع شاكر حسن ال سعيد، ويبدأ باختزال الموتيفات الشائعة مثل الهلال ومفردات العمارة مثل المحجر والشبابيك، ويتأثر بالأشكال المثلثة في زخرفة البسط الجنوبية، بهدف ايجاد أبجدية جديدة في الرسم تتناسب وطبيعة الحياة المعاصرة.

ويستعرض الكتاب العشرات من أعمال جواد في الرسم والنحت والجداريات، وبتصوير عالي الدقة، ويطلعنا علي مقالات ومحاضرات كتبها وألقاها في مناسبات عدة. وتحدثنا ابنته زينب عن تفاصيل حياته وأصل الأسرة، وعلاقة جواد بأهله وإخوته، والأجواء الفنية في العهدين العثماني وبداية تاسيس الدولة. وتتطرق الكاتبة الى جيل جواد الذي كان فخوراً بانتمائه ويسعى لبناء هوية عراقية في شتى المجالات، بالإضافة إلى اهتمام الدولة بتنمية الفنون وابتعاث الشباب الموهوبين إلى أوروبا. وكان نصيب جواد السفر إلى باريس للدراسة، إلا انه اضطرّ للعودة إلى العراق بسبب اندلاع الحرب، والعمل في التدريس في معهد الفنون وفي المتحف العراقي.

سافر جواد إلى لندن بعد انتهاء الحرب لدراسة النحت، والتقى في الكلية زميلته لورنا التي صارت زوجته، وعاد بها إلى بغداد حيث انجبا زينب وبعدها مريم. وعاد إلى التدريس في معهد الفنون، واستحدث قسم الخزف بعد عناء طويل. وتحدثنا الكاتبة عن سفراته المتكررة إلى شمال العراق، ودول أخرى في أوروبا والولايات المتحدة، واهتمامه المتزايد بموضوعة الأمومة في أعماله. وفاز جواد عام 1953 بجائزة لعمل السجين السياسي في مسابقة عالمية، وكانت قيمة الجائزة 25 جنيه إسترليني، وعرض العمل في متحف تيت في لندن.

وتسرد الكاتبة الكثير من التفاصيل الشخصية والإنسانية، منها شغف جواد على تعلم العزف على آلة الكيتار، وألمه لموت أخيه الأكبر رشاد بسن مبكرة، والحساسية من المضادات الحيوية التي كان لها تأثير سلبي على جهازه العصبي، وانتقالاته المستمرة بين بيوت مستأجرة، بالإضافة إلى التدخين بشراهة وابتعاده عن الرياضة البدنية، والتي لعبت دوراً في مشاكل في القلب وموته المبكر.

وتطلعنا زينب على الصراعات التي خاضها جواد أثناء القيام بصناعة نصب الحرية، منها فشل تنفيذ المنحوتات الأولى بسبب افتقاره لخبرة إبرام العقد مع الجانب الإيطالي، وقيام السفارة العراقية بعد ذلك بتكليف محامي بعد ان باءت التجربة الأولى بالفشل، وصراع مع بيروقراطية الدولة التي حددت التنفيذ بوقت ضيق، وأكبر من هذا وذاك كان صراعه مع نفسه لإنجاز نصب يحاكي عظمة العراق وتاريخه وشعبه. تسببت هذي الضغوط إلى انهيار عصبي تسبب في دخوله إلى مصح في إيطاليا، ويبدو ان قلبه استمرّ في التدهور حتى توقف نهائياً يوم 23 كانون الثاني 1961، ودفن جواد في مقبرة الإمام الأعظم.

وفي ختام الكتاب فهرس لكل أعمال جواد المعروفة حسب التسلسل الزمني، مع ذكر أسم مالك العمل. ان مثل هذا الفهرس قد يضع حداً لتزوير أعمال جواد ويرفع من قيمتها في الأسواق العالمية.

الكتاب مكون من 376 صفحة وبحجم كبير، وقد يكون اهم دراسة قدمت عن جواد لأنها تقرن أعماله بالبيئة السياسية والاجتماعية والفنية لجيل الخمسينيات وما سبقهم. وأجد من الضروري ترجمته إلى العربية ليتسنى للباحث والمهتم الاستفادة منه لفهم مرحلة مهمة من مراحل الفكر والفن في العراق.

  كتب بتأريخ :  الخميس 18-09-2025     عدد القراء :  15       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced