بعد أكثر من عشرين عامًا على التحول السياسي الكبير، ما زالت الديمقراطية في العراق مشروعًا لم يكتمل بعد. فبينما أرست الدساتير والقوانين نظامًا ديمقراطيًا برلمانيًا طموحًا، بقي الواقع السياسي والاجتماعي معقدًا ومثقلًا بالتحديات التي تعيق هذا التحول.
وحدد الدستور العراقي لعام 2005 شكل النظام السياسي بأنه جمهوري اتحادي ديمقراطي برلماني، قائم على التداول السلمي للسلطة والانتخابات الدورية. كما أنشئت مفوضية مستقلة لإدارة الانتخابات.
لكن مع مرور خمس دورات انتخابية، لا تزال مؤسسات الدولة ضعيفة، والممارسة الديمقراطية تواجه عراقيل جدية، أبرزها ضعف الثقة الشعبية وهيمنة الأحزاب التقليدية، واستمرار الفساد والمحاصصة الطائفية والحزبية.
وشهدت انتخابات 2021 مشاركة لم تتجاوز 41% أو أقل، وهي من أدنى النسب منذ 2003. ورغم صعود بعض المستقلين، لم يتحقق تغيير حقيقي، إذ عادت القوى التقليدية لتشكيل الحكومة وفق تفاهمات ومحاصصات، بعد أزمة سياسية استمرت لأكثر من عام.
وأصبحت المحاصصة هي القاعدة غير المعلنة للعملية السياسية. فهي تقسم المناصب والموارد بين المكونات والأحزاب، ما أنتج حكومات ضعيفة غارقة في الفساد تفتقر إلى الانسجام والمساءلة، وجعلت مصلحة الحزب أو الطائفة تتقدم على مصلحة المواطن.
وكذلك برز القضاء، خاصة المحكمة الاتحادية العليا، كلاعب مؤثر من خلال قراراته المفصلية بشأن تشكيل الحكومات والانتخابات. لكن هذه القرارات أثارت في الوقت نفسه جدلًا حول استقلاليتها وتأثير السياسة عليها.
أما العلاقة بين بغداد وأربيل فما زالت تشهد توترات متكررة، كما ظهر مؤخرًا في قرارات المحكمة الاتحادية المتعلقة بانتخابات الإقليم، والتي فجّرت خلافات سياسية حادة.
ومن جهة أخرى، لا تزال بعض القوى تملك نفوذًا غير رسمي من خلال المال السياسي أو السلاح المنفلت، ما يجعل المنافسة الانتخابية غير عادلة وتضعف ثقة المواطن بالعملية الديمقراطية.
وبالرغم من أن احتجاجات تشرين 2019 شكّلت علامة فارقة، إذ عبّرت عن مطالب واضحة تتعلق بالخدمات، والوظائف، والعدالة، وإنهاء الفساد والمحاصصة، لكن هذه المطالب لم تجد استجابة حقيقية حتى الآن.
ورغم التحديات، ما زال بالإمكان إنقاذ التجربة الديمقراطية العراقية. فالمطلوب ليس معجزات، بل إرادة سياسية شجاعة تقود إصلاحات حقيقية، أبرزها:
تعديل النظام الانتخابي لتمثيل أوسع وعدالة أكبر.
إنهاء نظام المحاصصة والاعتماد على الكفاءة.
ضمان استقلال القضاء.
إصلاح العلاقة بين المركز والإقليم.
التركيز على تقديم الخدمات ومكافحة الفساد.
إن الديمقراطية في العراق ليست فاشلة، لكنها لم تنضج بعد. فبين النصوص الدستورية والواقع المربك، تقف البلاد أمام مفترق طرق حاسم. النجاح مرهون بقدرة النخب السياسية على تجاوز منطق المحاصصة وبناء دولة مواطنة حقيقية، تستجيب لتطلعات الناس في الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، وتعيد ثقتهم بالعملية السياسية.
حظوظ القوى المدني
وخلال كل ذلك، تخوض القوى المدنية منافسة صعبة أمام أحزاب تمتلك موارد مالية كبيرة، وقواعد تنظيمية راسخة، وأذرع إعلامية فعالة، وفي بعض الحالات نفوذًا مسلحًا غير رسمي. هذه المعادلة غير المتكافئة تعقد العملية الانتخابية للقوى المدنية ومن ضمنها تطلعاتهم في الوصول الى قبة مجلس النواب.
ومع اقتراب كل استحقاق انتخابي في العراق، يعود الحديث مجددًا عن دور القوى المدنية والمستقلين في الحياة السياسية، وحجم تأثيرهم الحقيقي في ظل نظام انتخابي معقد وهيمنة أحزاب تقليدية راسخة.
فمنذ احتجاجات تشرين 2019، برزت هذه القوى كصوت مختلف يعبّر عن تطلعات شريحة واسعة من الشباب والمجتمع المدني، وظهرت قاعدة جماهيرية واضحة تتعاطف مع الخطاب المدني، مكونة في أغلبها من الشباب المتعلم وسكان المدن والناشطين. وهذه الفئة تمثل طاقة تغيير حقيقية، خاصة في ظل تراجع ثقة المواطنين بالأحزاب التقليدية التي تهيمن على السلطة منذ 2003، لكنها لا تزال تواجه تحديات كبيرة تحول دون ترجمة هذا الحضور إلى نفوذ سياسي فعلي. بالرغم من أن المواطن العراقي بات يبحث عن وجوه جديدة بعد تجارب مريرة مع النخب الحاكمة، وهذا يمنح المدنيين فرصة معنوية مهمة، بالرغم من اليأس والإحباط والمقاطعة.
وفي النهاية، فإن القوى المدنية في العراق تملك حظوظًا انتخابية حقيقية، وتأثيرها يعتمد على قدرتها على دعم تحالفاتها ضمن برامج واضحة، وحماية العملية الانتخابية من المال السياسي والسلاح المنفلت، وإقناع الجماهير بأنها بديل جاد وقادر على تقديم حلول واقعية بعيدة عن ممارسات الأحزاب الطائفية الحاكمة.
7 تشرين 1 2025