عاشت الكاتبة وعالمة الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي ما يناهز خمساً وسبعين سنة، ونشرت خمسة عشر كتاباً من بينها «أحلام النساء: طفولة في الحريم» و«شهرزاد ترحل إلى الغرب» و«نساء على أجنحة الحلم». وحاضرت في جامعات ومنتديات فكرية عربية وغربية، ونالت جوائز كبرى، وأسست جمعيات ونوادي ثقافية، وكانت من النساء المئة الأكثر تأثيراً في العالم وفق تصنيف صحيفة الغارديان لسنة 2011. فعلت كل ذلك بامتلاء حياتي كبير مثل سبيلها إلى الإنصات بتيقظ إلى هواجس واقعها الثقافي وهو ينوس بين الانشداد إلى الماضي والخلوص إلى أحلام المستقبَل، وخيرت في مسيرتها البحثية الانتصار للحلم وللحياة ولشروط الوجود الإنساني الكريم. وكان وَكْدُها في كل كتاباتها التساؤل عما هو ساكن في عتمة المتخيل الذكوري عن المرأة بغرض تفكيكه وتحريره من قيود العادة والبداهة والمألوف التي أوهنت فاعليةَ النسوة في سجلات تاريخنا العربي الإسلامي أو هي طمست حضورهنّ فيه. رحلت المرنيسي عن دنيانا بعد أن كتبت أسطراً مضيئة في كتابنا الثقافي والاجتماعي، ولامست بنضالية فكرية تفاصيل معيشنا ورصدت ما في هوامشه من خلل حضاري، بل ويحسب لها أنها رجت هَدْأتَنا الفكرية رجّاً جريئاً سيظل الجسرَ الذي نعبر منه إلى كشف ذاتنا الجمعية ومصارحتها بحقيقتها، وهي خصال فكرية ونضالية يؤكدها بعض المثقَّفين العرب الذين أمدّونا بشهادات حول شخصيتها وكتاباتها.
من ذلك أن الباحثة التونسية رجاء بن سلامة كتبت عن مقاصد فكر فاطمة المرنيسي قائلة: «لم أكن أعتقد بأن فاطمة المرنيسي ستفارقنا بهذه السرعة. التقيت بها في الرباط منذ بضع سنوات، فرأيت فيها المرأة الصاخبة بالحياة والفكر. وكذلك كانت كتاباتها. لم تكن تكتب أبحاثاً أكاديمية تقرأ لتوضع على الرفوف، بل كانت تكتب لتتحدى فكرة سائدة متحجرة، أو قالباً من القوالب الجاهزة عن الغير. كتبت، على سبيل المثل لا الحصر، ضد كذب المحَدثين وتأويلات الفقهاء في «الحريم السياسي: النبي والنساء» (1987)، وكتبت ضد أفكار الفطرة والماهوية البيولوجية في «ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعية» (1987)، وكتبت ضد النسيان المنظم في «سلطانات منسيات: النساء رئيسات الدول في الإسلام” (1990)، وكتبت لتشرح أسباب الخوف من الحرية في ««الخوف من الحداثة: الإسلام والديموقراطية» (1992) وكتبت لتبين استبداد فنتازمات الحريم في الغرب في «هل أنتم محصنون ضد الحريم» (1998). ربما تكون بعض أفكارها رافداً من روافد «النسوية الإسلامية» التي تفيد القضية النسوية نسبياً في الواقع، ولا تنتج، وفق رأينا، أطروحات مقنعة في البحث، لكن فكرها وحياتها لا يمكن أن يختزلا في هذا التيار. كانت شامخة بأناقتها وألوانها الزاهية واعتزازها بالثقافة المغربية. دام فكرك، يا فاطمة. دامت ألوانك حيّة في أعيننا».
أمّا اليمني سعيد سالم الجريري، أستاذ الأدب العربي بالجامعة الهولندية، فحدثنا عن الراحلة قائلاً: «للمفكرة فاطمة المرنيسي مشروعها الفكري الذي أخلصت له جهدَها، حيث لم تنجز أعمالاً فكرية منقطعة التماس مع حركة النضال النسائي في بلدها بخاصة وفي الوطن العربي بعامة، ولم تكن المرنيسي منقطعة التماس مع جوهر المنجز الفكري والواقعي في الثقافة العربية الإسلامية في قضية المرأة وحقوقها السياسية والاجتماعية والإنسانية. وعلى رغم رصانة طرحها الفكري لم تكن مؤلفاتها بمنأى عن التلقي المستريب من السلطات السياسية والدينية والاجتماعية لما يتسم به منهجها من مواجهة لأيديولوجية التابوات المهيمنة. شخصياً كنت أجدني بعد قراءة كل كتاب من كتبها أعيد قراءة الواقع والتاريخ والمستقبل مستنيراً بخطواتها المضيئة».
ويصف الباحث والروائي المغربي الحبيب الدائم ربي، المرنيسي بـ «الأميرة الشامخة» ويقول: «لئن كنت قد قرأت أهم ما كتبت فاطمة المرنيسي من مؤلفات وأطاريح بغير قليل من الفضول المعرفي المقرون بالإعجاب، فإن الاقتراب من شخصها لم يتح لي إلا في فرصتين لا غير. وهو اقتراب لا يسمح لي بالمزاعم ولا بخدش جلال الموت بالتقولات. أي أنه كان في حدود تبادل التحية ليس إلا، ومع ذلك فإنه كان بالنسبة إليّ مفيداً ودالاً، سيما في الربط بين محفليْ الكتابة، من جهة، والذات الكاتبة، من جهة أخرى. حصل اللقاء الأول سنة 1987 في مدينة الرباط بمناسبة توقيع أحد إصدارتها بمكتبة «الكرمل»، فيما كان اللقاء الثاني سنة 1990 في مدينة الجديدة بمناسبة تكريم السوسيولوجي الراحل عبد الكبير الخطيبي. وكان اللقاءان كافيين لتكوين انطباع شخصي وإيجابي عن سيدة عظيمة لا يوازيه إلا انطباعي عن مكانتها العلمية. وبما أن أي تقييم، الآن، لمنجز فاطمة المرنيسي سيكون مجروحاً، بالمعنى الحقيقي والمجازي، فإنه، بالمقابل، يمكن القول إن الفقيدة لم تكن مجرد كاتبة أو عالمة اجتماع أو مناضلة فحسب، وإنما كانت أيضاً أميرة ثائرة، بكل الإيحاءات والدلالات الممكنة. فإضافة إلى جانب مزاياها المشهود لها بها كانت تحوز شموخ الأميرات، مظهراً ومخبراً. بعيداً عن البؤس الذي يخيمّ، عادة، على بعض مثقفينا وعلمائنا، وهو بؤس مبرَّر على أية حال. وفضلاً عن جرأة الخطاب وشجاعته، كانت فاطمة رقيقة الحواشي أنيقة، بل وفي غاية اللباقة والتهذيب. إذ إنها كانت منصتة جيدة، وحين ترد على تعقيب أو استفسار تولي المقام التواصلي قيمة كبرى بالإعلاء من شأن السائل قبل معالجة السؤال بما يليق من تدقيق، وتلك خصال تليق بأميرة حقاً».
ويرى الروائي العراقي رسول محمد رسول أن رحيل المرنيسي يدعونا إلى ضرورة قراءة منجزها الفكري من جديد، ذلك أنها قد «رحلت في أزمنة الموت التي تحرق الحياة في كل مكان بعد أن بذلت كل ما في وسعها من وقت وطاقة لإيصال صوت الأنثى إلى العالَم، بل وإسماعه صرخة الأنثى في وجه التردي والظلم والتخلف وسوداوية كبح حرية البشر. في خلال حياتها ألفت الكثير من الكتب باللغتين العربية والفرنسية، وتوفرت على قراء لها في الشرق والغرب أحبوا قلمها وسكنوا إلى أفكارها تأملاً وتواصلاً ليس من جانب النساء فحسب لكونهن موضوعها الرئيس وإنّما أيضاً من جانب الرجال، ففي منظورها الفكري لا يمكن تحقيق نهوض حضاري لأي مجتمع بالفصل فيه بين الذكورة والأنوثة.