تشهد أزقة بغداد القديمة التي تتميز بمعمارها البغدادي الجميل وشناشيلها أسوأ احوالها خاصة انها تتعرض الى الاندثار بفعل الزمن حيث تهدمت اغلبها وبات الباقي على وشك الانهيار من دون ان تلتفت اليها الجهات المسؤولة التي طالما تبرر ذلك بأن البيوت تعود الى مواطنين ولا يمكن اتخاذ أي أجراء، فهذه المحلات في النهار تبدو مخيفة ولا يمكن لشخص بمفرده أن يدخلها، أما في الليل فهي مسكونة بالرعب تماما وكل شيء فيها مخيف حيث الظلام يتسيدها والتوجس يسيطر على من يحاول السير لامتار في ازقتها الضيقة الرطبة غير السوية التي تكثر النفايات في ارجائها بل ان المهدم منها (الخرائب) تحول إلى مكب للنفايات.
وينطبق هذا الوصف على العديد الحارات التي تسمى في العراق المحلات في جانبي الكرخ والرصافة لاسيما التي تقع على جانبي شارع الرشيد من شماله (باب المعظم) الى جنوبه (الباب الشرقي) التي تعيش أسوأ أحوالها، فهذه الحارات تغيرت جغرافيتها ولم تعد صالحة للسكن بفعل الظروف الجوية فضلا عن كونها مهدمة وفي وضع مزري كما ان اتكاء بعضها على بعض ادى الى ارتفاع نسبة الرطوبة فيها وتساقط اجزاء من البناء خاصة من الطوابق العليا كما ان بعضه المناطق تحول الى محال تجارية تغلق ابوابها الساعة الثانية بعد الظهر فتمتلئ بالظلام.
وقد وجدنا في بعض الاماكن عوائل تعيش في امكنة سيئة للغاية لكنهم كما يقولون مضطرون لانهم فقراء كما في منطقة العمارات القريبة من ساحة حافظ القاضي او منطقة المربعة، الى ذلك تعاني مناطق الشيخ عمر والشيخ عبد القادر والصدرية والبتاويين وشارع ابو نؤاس وعلاوي الحلة والصالحية وغيرها التي تمثل قلب بغداد النابض وواجهتها السياحية من الكثير من السلبيات لعدم الاهتمام بها خاصة ان بعضها ما زال يعيش على ما كان يعيش السابقون. إيلاف تجولت على مدى أيام في العديد من المناطق وتعرفت على الكثير من تفاصيل الحياة فيها واوضاعها الحالية فكانت هذه الحصيلة.
شارع ابو نؤاس
تعاني اغلب ابنية شارع ابو نؤاس على شواطئ دجلة من سوء احوالها حيث تشوهت واعتراها القدم وتهدم الكثير منها حتى باتت تمثل تلوثا بصريا واضحا، حتى باتت مجرد هياكل فارغة فالناظر الى الابنية سيجد انها اما مهدمة او مهملة وغير مستخدمة او ألقى عليها الزمن تبعاته فتغيرت ملامحها وضاعت الوانها الحقيقية فاكتسبت الوانا باهتة حتى وان حاول البعض إضفاء ألوان جديدة، حتى الفنادق ليست جذابة وغير قادرة على ان تستقطب سائحين كثيرين لانها ما زالت تحمل المواصفات القديمة والواجهات التي ارهقها الزمن وان كانت تقف قبالة حدائق خضر على شاطيء دجلة، ابنية متعبة وتزداد مع الايام تعبا وتكاد تنهار اذا ما مرت عليها سنوات أخرى. هناك التقيت مصادفة عبد السلام محمد فجر، مهندس معماري، فقال: الطراز البغدادي هو الاجمل والاكثر سحرا وبهجة لكن للاسف زال الاهتمام به والدليل ان بغداد القديمة انتهت وليس هنالك من مسؤول انتبه ليحافظ عليها وعلى جمالها وبهائها ،فكلها تعرضت للتدمير والهدم فضاع التراث وبدأت المدينة تخسر ميراثها الإبداعي الثري. واضاف: الكثير من معالم المدينة البغدادية اندرست ولم تعد الشناشيل الجميلة حاضرة وتم الاستعاضة بالكيبوند لتغليف الابنية المتضررة وهو اسوأ ما تم انتاجه لان بغداد العظيمة لا تتميز بهذه المبتكرات القبيحة. وتابع: شارع ابو نؤاس مثل غيره صار مستلبا لتاريخه العريق ولان الاهمال يطاله لاسباب غير معروفة فهو يقبع تحت ظل الخراب المتواصل ، سمعنا الكثير من الكلام لاعادته الى الوجود، ولكن لا صحة لذلك وهكذا يمكن القول ان شارع ابو نؤاس لم تعد ضمن قائمة اهتمام الدولة.
البتاويين
تعد منطقة البتاويين المنطقة الاخطر بين مثيلاتها الايلة للسقوط، على الرغم من انها تقع وسط بغداد، فأغلب بيوتها التي يعود تاريخها الى سنوات بعيدة والتي تتميز بطرازها البغدادي، مهدمة او على وشط السقوط او مكبات للنفايات، فيما تحول البعض منها الى سكن عشوائي للذين يبحثون عن سكن داخل هذه المنطقة لكونها قريبة مما يمارسون من اعمال كالتسول او البيع على الرصيف، وهناك من يقول ان بعض الغجر سكنوها من دون ان يمنعهم احد او يسائلهم فصارت تلك البيوت ملاذا للمشردين وللسكارى ومروجي الحبوب المخدرة. يقول ابو كريم، يعمل في البتاويين: اتمنى اولا إن تبعث رسالة الى الحكومة تسألها فيها هل زار احد منها هذه المنطقة المهمة في وسط العاصمة؟ اعتقد ان الجواب سيكون محرجا لهم وانا اطلب من رئيس الوزراء حيدر العبادي ان يأتي لاسأله هل سبق له ان مر في هذه المنطقة وهل يعرف ما يجري فيها وهي التي وسط بغداد؟ واضاف: "للاسف ان البتاويين تهدمت اغلب بيوتها التي هي من اجمل البيوت البغدادية المبنية بالطابوق وشناشيلها الجميلة ولا احد يهتم بها بل انها سنة بعد سنة تزداد سوء ولا نعرف من يدخلها من عصابات وارهابيين فهي تمسي في الليل عالما مخيفا مظلما وبصراحة انا اخاف مجرد ان افكر في ان امر من احد طرقاتها.
المربعة
هذه المحلة او الحارة التي تقع على شارع الرشيد في مكان مميز جدا والتي كانت من اروع المحلات على مر الازمنة تحولت الى محال تجارية وورش صناعية فيما 150 بيتا من بيوتها تعرضت للسقوط ولم يبق من ساكنيها الا اقل من 60 بيتا وهذه البيوت تعيش فيها اضطرتها الظروف المعيشية الصعبة على البقاء.
ومن المؤسف ان يشاهد المار فيها ذلك الجمال يذوي وتلك البيوت تتصاعد فيها الرطوبة فيما مجرى الماء في وسط دربوها الصغيرة ما زال يمتد باحثا عن فوهة مجاري فيما الروائح الغريبة تملأ المكان.
يقول سعد عد الكريم، من أهالي المربعة: تغيرت المحلة تماما عما كانت عليها في الثمانينيات مثلا، فهي الآن (تعبانة) وأهلها الأصليون غادروها وتركوها تتهدم، وليس هنالك احد من الحكومة جاء ليتفقدها ليعرف ما لها وما عليها، فكل شيء فيها سيء ويرثى له وكأن المحلة تعيش في القرون الوسطى على الرغم من انني قرأت انها كانت في زمن العصر العباسي تسمى محلة الاكابر وعاش فيها المسلمون والمسيحيون والمسلمون معا. واضاف: "لو نظرت الى البيوت وتصميمها وشناشيلها وخشبها وشبابيكها الملونة لاعجب منظرها فهي لا مثيل لها في بغداد ولكنها مهملة". وتابع: "لا اعرف لماذا لا تنتبه الى الحكومة الى هذه المحلة وتهديمها وبناءها من جديد ما دامت غير مهتمة بها، اقلها توفر وحدات سكنية للناس وتبني محلات حديثة خاصة ان المحلة في شارع الرشيد".
باب السيف والشواكة والكريمات هذه المحلات التي تقع في الكرخ وعلى نهر دجلة هي الاخرى آيلة للسقوط بل اغلب البيوت فيها انتهت تماما او شبه منتهية بان خرابها فيما السفارة البريطانية سابقا تحتل مساحة واسعة ولا احد يعرف المغزى من وجودها وقد انتقلت الى المنطقة الخضراء وهي الان في هذا المكان عاطلة عن العمل، خاصة انها تقع بين نهر دجلة وشارع حيفا بعماراته الحديثة. الكثير من البيوت هناك سقطت سقوف طوابقها العليا التي من خشب بعد ان اكلتها الارضة وقست عليها الازمنة فيما ظهرت الكثير من الابنية متورمة مندفعة الى الزقاق وهناك بيوت سقطت وتحولت الى خرائب تتجمع فيها النفايات التي روائح العطنة تسيل الدموع، بل ان البعض من سكان البيوت يطلق عليها (مقابر)، فتستغرب كيف يعيش الناس هناك وسط هذه الاجواء التي لا تتوفر فيها ابسط المقومات ،والمنظر كله يقع على شاطيء نهر دجلة لكنه قبيح ومقزز. ويشكو اهل هذه الحارات اوالمحلات من وجود الافاعي والجرذان خاصة ان مساحة بعض البيوت صغيرة جدا ودرابينها بعرض متر ونصف، فضلا عن التصدعات الواضحة في العديد من البيوت.
يقول ابو عمار، 65 عاما، من أهالي باب السيف: "ظلت هذه المحلات متروكة بعد ان انشيء شارع حيفا مطلع الثمانينيات، ظلت على نفس الهيأة والزمن يلعب بها وحتى لو كانت من حديد فأنها لم تصمد فكيف بها وهي من خشب وطابوق وقريبة من النهر الذي طالما كان يفيض فيؤثر على البيوت وهذا حال هذه المحلات من زمان". واضاف: "لا اعرف سر اهمال الحكومات المتعاقبة لهذه الامكنة التي لم يزرها مسؤول حكومي ابدا لكي يعرف كيف يعيش اهلها على الرغم من ان موقعها على النهر ومن الممكن ان تكون فنادق وقصور ومتنزهات وكافيتريات وأماكن ترفيه، انا استغرب انها مهملة وهي في قلب بغداد". وتابع: "مع من نحكي، لقد تعبنا مثلما تعب البلد، يشكون من عدم وجود سكن للناس ويتركون اجمل المناطق مهملة، وكان عليهم اعادة بنائها من جديد بشكل يليق ولكن من يسأل ومن يهتم !".
منطقة باب الشيخ
ولا تختلف منطقة باب الشيخ عن سواها من المناطق البغدادية القديمة، فهي الأخرى يرثى لها، فالبناء القديم ما زال على حاله لكنه في وضع سيء فهو ما بين مهدم وانقاضه متروكة فيه وما بين على وشك ان يسقط وقد تحولت البيوت الى مصانع صغيرة ومحال تجارية ولا زالت المحلة التي كان العالم الاسلامي يجتمع عندها بلا خدمات ومتضررة وبائسة وكل شيء فيها يدعو الى الاستغراب والتساؤل ايضا :كيف يعيش الناس هنا؟ سألت رجل يقف بعربته على شارع الكفاح الذي يمتد الى مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني، فقال: "منذ ان فتحت عيوني عليها وهي على هذا الحال ، فالكثير من اهلا هجروها بعد ان اصبحت لديهم عوائل كبيرة ولم تعد هذه البيوت الصغيرة تكفيهم ، فاشتراها اهل المصانع لذلك ترى شارع الشيخ عمر كله محال لتصليح المعدات والسيارات.
واضاف: "نحن مواطنون بسطاء لا نستطيع ان نجبر الحكومة على ان تفعل شيئا لنا والا هل تعتقد ان الحكومة لا تدري كيف يعيش الناس هنا او كيف صارت هذه المحلات القديمة التي اكل الدهر عليها وشرب كما يقولون".
البحث عن جواب
حاولنا البحث عند امانة بغداد عن اجوبة لاوضاع هذه الاماكن الكثيرة التي لم يبق منها سوى الاثر، لكننا لم نستطع الى ذلك سبيلا ، الا ان بعض الاشخاص الذين لهم دراية بالامور اشاروا الينا ان اغلب البيوت التي في هذه المحلات تابعة لاصحابها الاصليين من اليهود والمسيحيين على وجه التحديد وقليل منها لمسلمين، وهؤلاء سافروا وغادروا البلد وكونوا عوائل خارج العراق فيما ورثتهم الذين ولدوا في الخارج لا يفكرون في زيارة العراق في الوقت الحالي للظروف التي يعيشها ولا يستطيع احد التعامل مع هذه البيوت على الرغم من ان بعضها يسكنه فقراء مجانا.