هل كان ينبغي أن تسيل دماء حتى يضطر متنفذون الى التحرك لايجاد حلول ترقيعية لأزمة الكهرباء التي ظل المسؤولون يخفقون في الكشف عن ملابساتها، وظل ما خفي منها الأعظم ؟ على الرغم من أن أزمة الكهرباء سرقت الأضواء من أزمة تشكيل الحكومة، فاننا لا نرى حاجة، الآن، الى ايراد الحقائق والمعلومات والأرقام عن هذه المعضلة. فقد اطلع الناس على تفاصيل هذه الحقائق، وباتت في متناول الجميع من معنيين ومسؤولين حكوميين وسياسيين، ناهيكم عن الملايين من ضحايا المعاناة. غير أنه لابد من الاشارة، في الأقل، الى الحقيقة المفجعة المتمثلة في تبديد ما زاد على 17 مليار دولار على قطاع الكهرباء، في ظل فساد مالي واداري قل نظيره. واذا ما صح افتراض استغلال قوى معينة الأحداث، وهو ما لا يستبعد محللون حدوثه في ظل طبيعة الثقافة السياسية واشتداد الصراع على السلطة، فان هذا لا يغير شيئاً من جوهر القضية، متمثلاً في المعاناة المريرة للملايين من أزمات مستعصية، إحداها أزمة الكهرباء، وتراكم هذه المعاناة وتفجرها في احتجاجات شعبية، والمطالبة بمحاسبة المسؤولين عنها، وتعبير الناس عن خيبة أملهم من وعود السياسيين. ومما يلفت الأنظار، في هذا السياق، أن جهات مسؤولة في محافظات ومدن معينة حجبت عن الناس حق التظاهر والتعبير عن الرأي لأسباب واهية، بينها الخشية من تحولها الى أعمال شغب قابلة للاستغلال. وربما فاجأ ذلك السخط العارم الذي اندلع في البصرة ليمتد الى محافظات ومدن أخرى "مسؤولين" عن معاناة الملايين، لكن المنصفين، وبينهم مرجعيات دينية، لم يفاجأوا باندلاع السخط، بل إنهم كانوا قد حذروا، مراراً وتكراراً، من موجة غضب شعبي ضد الوزارات الخدمية، وخصوصاً وزارة الكهرباء. غير أن المفاجأة الصادمة تجلت في توجيه مذعورين من غضب الشعب رصاصهم الى صدور المتظاهرين العزّل، وسفك دماء غالية، لا لشيء إلا لأن الناس مارسوا حقهم في التظاهر والاحتجاج، وهو حق مشروع كفله الدستور العراقي. وإذا كان من الطبيعي التأكيد على أن التعبير عن حالة السخط والاحتجاج على تدهور الأوضاع وتفاقم المعاناة يجب أن لا يتم عبر الاضرار بممتلكات الدولة وتخريبها فهو أمر غير مبرر على الاطلاق، فانه من غير المبرر، أيضاً، إسالة دماء بريئة بسبب المطالبة بحق، والنظر الى "الاستغلال السياسي" للأحداث نظرة أحادية، والسعي الى استخدامه لتبرير القصور والتخلي عن المسؤولية عن الأزمات. إن ما ابتدأ في البصرة وانتشر، مثل النار في الهشيم، الى مدن أخرى، ليس مجرد صرخة غاضبة بسبب غياب الكهرباء، وإنما تعبير ذو دلالات بليغة على عمق الأزمة التي تعاني منها البلاد على مختلف الصعد. وفي هذا السياق بالذات ينبغي النظر الى مشكلة الكهرباء وعلاقتها بانهيار البنية التحتية وزيف الوعود وانغمار السياسيين في صراع الامتيازات وشيوع عمليات النهب والفساد، و... سوى ذلك الكثير من تجليات الأزمة العراقية. أما مطالبة الملايين بـ "الالتزام بالهدوء وضبط النفس" فمسألة قديمة اعتادت على ممارستها مختلف السلطات المستهينة بمعاناة شعوبها، والتي تلجأ، في كل مرة، الى إخراج تهمها المعدة سلفاً ضد ممارسة الناس حقهم في الاحتجاج على واقع اجتماعي مرير ووعود حكام زائفة. إن "المفارقة" العراقية، وجوهرها الازدواجية التي خلقتها ثقافة الاستبداد وتشويه المجتمع، هي التي تفسر مأساة أن كثيراً من المحتجين ضد القوى الحاكمة المتنفذة هم الذين منحوا، قبل أشهر لا أكثر، القوى الحاكمة أصواتهم في انتخابات كانت في عمومها وفي جوهرها تصويتاً طائفي الدلالة، بينما كان الناخبون هؤلاء أنفسهم يعبرون، حتى أثناء توجههم الى صناديق الاقتراع، عن مراراتهم. والحق أن هذه الظاهرة السايكولوجية الفريدة بحاجة الى دراسة من أخصائيين وتحليل لمعانيها ودروسها وعواقبها. * * * أزمة الكهرباء التي اندلعت بسببها الاحتجاجات الشعبية، وأحاطت بها اتهامات سياسية ذات ارتباط بطبيعة الصراع بين القوى السياسية على مواقع النفوذ، تكشف، من بين أمور أخرى، عن الاخفاق المريع في معالجة الأزمات التي تعاني منها البلاد، وقصور النظرة في هذه المعالجة. وهو قصور مرتبط، أساساً، بالمنظومة السياسية والفكرية التي يستند اليها نظام الحكم، وجوهره تقاسم السلطة والنفوذ في ضوء منهجية المحاصصات الطائفية والاثنية. وما لم يجرِ التخلي عن هذا العقل العاجز عن تجسيد رؤية عميقة للواقع وتشخيص لظواهره ووضع حلول سليمة لمعضلاته، انطلاقاً من مصلحة وطنية، ونظرة ستراتيجية علمية، وخطط اجتماعية واقتصادية مدروسة، فان هذه الأزمة المستعصية ستبقى مستعصية، ولن يكون بوسع استقالة وزير، اتهم العراقيين "بعدم قدرتهم على الصبر"، واتخاذ إجراءات "ترقيعية" مؤقتة، أن تعيد الى الملايين آمالهم التي بددها سياسيو الوعود الزائفة. يتعين على أولئك "المتنعمين" بامتيازاتهم .. المعزولين عما يكابده الملايين من فواجع .. والذين لا يجيدون سوى العزف على أوتار مآسي المحرومين المكتوين بجحيم المعاناة، أن يتعظوا من سخط الناس وغضبهم واحتجاجاتهم، وأن يعرفوا أن هذه ليست سوى الشرارة التي سيندلع منها اللهيب .. ولات ساعة مندم !
كتب بتأريخ : الخميس 01-07-2010
عدد القراء : 2329
عدد التعليقات : 0