مشروعية الثقافة فـي التغيير
بقلم : ياسين طه حافظ
العودة الى صفحة المقالات

ان ثقافة المجتمع هي بناؤه الفوقي او الناتج الحتمي، لمستوى ونوع وسائل الإنتاج وأساليب العمل. وهي ذات صلات بتوافقاته الاجتماعية. ولتغييرها، يُفتَرَض البدء بتطوير وسائل الإنتاج  من اليدوي إلى الآلي المتقدم، مثلا، وتوسيع وتحديث الزراعة



والتسويق وإعادة تنظيم التجارة لما يتطلبه هذا التحول الاقتصادي، عند ذلك ستكون الثقافة الجديدة حاجةً "وطنية"، ولن تكون فعلاً قسرياً مفروضاً من قوى مؤسساتية كبرى. العملية هنا ليست عملية لإنتاج الثقافة، ولكن لانتاج عمالة رخيصة متخصصة او "مثقفة" تحتاج اليها القوى القادمة او الصاعدة او صاحبة المشروع.

في الحالة الأولى، حالة الثقافة التي صارت حاجة وطنية نتيجة لتطور وسائل الإنتاج وأساليب العمل وتقدم المستوى المعيش للشعب او للجماهير ...، يكون التطور الثقافي طوعياً و بعضاً من حيوية الشعب اليومية في عملية تقدمه. وفي حال كهذه تكون الثقافة "الطبيعية" المتبنّاة، لا المفروضة، هي التي تقوم بالتغيير، بمعنى سدّ الحاجة، بمعنى تلبية متطلبات العيش الجديد وتلبية ضروراته.
وبالتأكيد هذا مُنْتَجٌ يختلف تماماً عن  مُنْتَج القوات العسكرية التي نريد من الثقافة ان تسبقها او تصحبها لتمهد لها السبل للتقدم وتهيئة أسباب التقبّل. لكن هذا التقبل لن يكون بتجريد الناس من موروثهم وانساق حياتهم والتآلفات النسيجية القائمة عليها ثقافتهم. فرض ثقافة جديدة هو عمل قسري ذو صفة عدوانية في بعض جوانبه وان أُريد به خيراً أو، للدقّة، بعض الخير.
القسر أساسه الانحياز. والانحياز عمل نمارسه في الدراسات الأكاديمية والمشاريع السياسية والاستثمارات والمخططات العسكرية.. وهذا يستوجب وقفة تأمل من المفكر الإنساني المحايد. في الدراسات الأكاديمية تتحكم بعض القوانين الاخلاقية في حماية جزئية للبحث من بعض الانزلاقات أو الانحيازات، غير العلمية، لكن هذه جزئية وشكلية في الغالب وقد تتعقد او يبطل عملها اذا تطابقت انحيازات المشرف اللاإرادية، أو الإرادية مع انحيازات الباحث، مادام الاثنان وراءهما مكوّنات ثقافية متخفية وتناهض الطارئ الثقافي الجديد. فهو بالنسبة لهما، وان لم يشعرا، طارئ اذ لم تتكامل الحاجة الحضارية اليه بعد.
اذكر هنا قول "شتراوس" : "الحاضر يصنعه الماضي" هذا يعني تصنعه الثقافات الماضية التي استجابت لمستجدات الناس في عالمها فاوجدت جديد الحاضر، او أحدثت التغيير. وهذا طبعاً يختلف عن تعطيل فعل الثقافات او إزاحتها. في العمل الأخير نوع أكيد من التدمير.
بناء المستقبل البشري يحتاج إلى "علم" لا إلى اندفاعات وحماسات، او كراهات لان هذه تكلف باهظاً وقد لا تؤدي إلى نتيجة توازي الكلف او التضحيات.
نخلص من ذلك العرض إلى ان إجراءاتنا وخططنا المستقبلية لا يمكن ان تكون وليدة ثقافتنا الحديثة ( أو المكتسَبة حديثاً)، وحدها. الثقافات المتخفية او المرفوضة حاضرة في بعض صورها فعلاً أو رد فعل. وقد تنشّطها ظروف خاصة أو طوارئ تهددها فتقاوم لأنها مازالت فاعلة وضرورية لمجتمعاتها: هذا في الواقع، يتضح بصورة اعتراض، او رفض، او "محافظة" كما يتضح في الارتدادات النظرية بين حين وآخر. والقول: ان الحاضر يصنعه الماضي وان المستقبل يصنعه الحاضر، ايجاز بليغ لما أسلفنا.
اما القول بأننا نستطيع توظيف "المثال" الثقافي للإقناع، فهو قول يجابه بحقيقة اللا "مثال"،  في الثقافة، لانها غير مستقرة ودائمة التغيير، أي لا ثقافة مثالية قطعاً. وإننا نستحضر دائماً ونضيف من تجاربنا اليومية، أي من الحاضر ومن التجارب السابقة، أي من التاريخ. ومن محصلة هذا المسح او الاستخلاص، بمستوياتهما المتعددة والمختلفة، يبدو ان شعار "الثقافة للجميع" قد صار الان مضحكاً وفي أحسن احواله هو شعار غير جاد، وغير جاد لانه ليس علمياً. لأننا دائما وفي جميع الظروف والبيئات بازاء ثقافات متفاوتة المستوى ومختلفة نوعاً وغير مستقرة. ليس هناك حدود تتوقف عندها الثقافة، فنؤطرها. الا إذا فهمنا من الشعار، مبادئ المعرفة و المعلومات العامة في الكتابة والقراءة والصحة والسلوك الاجتماعي وهذه أمور مدرسية بسيطة يتجاوزها الكلام.
حاولت جاهداً ان اجد قانوناً محلياً او دولياً يسمح بالإجهاز على ثقافة الآخر، فرداً او جماعة، واتصلت بأصدقاء خبراء في القانون، فلم اجد قانوناً ولا قيماً أخلاقية مما حققته الإنسانية عبر عصورها يسمح بذلك. فهناك "مِلْكيّة" ثقافية والتجاوز عليها او سلخها تجاوز سواء كان بقانون وضعي مستَحدَث او برغبة أخلاقية في الأفضل.
والملاحظ في فرض الثقافات ان ذلك عمل غالباً ما تقُوده النَخَب وتنفذه البورجوازية الصغيرة. فهذه البورجوازية الصغيرة تمتاز بالنشاط والحيوية والقوة العضلية وهي طبقة "تصعد وترى.." لكن النتائج بعد انتهاء المرحلة، لا تكون دائماً في صالحها لأنها أقامت فوائدها على خسارات في ارثها الثقافي، وهي متجاوزة على مصالح ومتطلبات غيرها لان هذا الارث مشترك لعموم المجتمع ولا تنفرد به جماعة دون أُخرى. ولكي لا نظل في التنظير، لنعرض أمثلة من التطبيق: من الذي نشر الفكر الاشتراكي الماركسي في العراق؟ من قاد العمل ومن انجزه؟ قادته نُخَب، تسمى القيادات. وأنجزته البورجوازية الصغيرة، طلبة، معلمون، موظفون صحيون ... الخ.
كان الجنوب الإقطاعي أميّاً وكان الفلاح يستقبل التعاليم الجديدة بالطريقة التي كان يستقبل بها المواعظ والوعود من رجال الدين. ومع ان الحزب الشيوعي كان عقلانياً في التدرج بتغيير الأفكار والتثقيف بالمنفعة المستقبلية واسس لذلك بقانون الإصلاح الزراعي بعد تموز 1958  والدعوة للتصنيع والعمل النقابي وشعارات (من اجل الحياة الكريمة والمستقبل الأفضل والسعيد)، لكن هذه مفردات مشابهة تماماً – مع الفارق الضمني- لما كان يقوله لهم رجال الدين بالنسبة للصلاح في الأرض وعمل الخير في الدنيا للدخول إلى الفردوس (مقابلاً للمستقبل الأفضل السعيد)! لكن لان وسائل الإنتاج لم تتغير، لا الصناعة الزراعية ولا البضائعية، ولم يحصل بعد تقدم مدني او حضاري، فما ان تأخر "النفع" الموعود وهاجمتهم القوة المسلحة بشراسة انتقامية، حتى عادت جماهير الفلاحين إلى ثقافتها الغيبية، إلى ملاذاتها الأولى حيث القيادة لا تُرى بالعين ولا يمكن إسقاطها او مطاردتها وحيث الوعود لاتنال منها الأرض وحيث المستقبل الأفضل (وهو هنا الفردوس) لا يزال قائما و "مضموناً" .. لقد عادت تلك الجماهير الفلاحية، وكثير من غير الفلاحية إلى معتقداتها وزعمائها الدينيين وإلى عشائرها، فلا غرابة في حجم الموالاة للزعامات الدينية اليوم. لقد عاودت الثقافة القديمة حضورها، لان الثقافة الجديدة جاءت قبل توفر أسبابها الاقتصادية والحضارية التي تستدعي المستجدات .. وأضيف لهذا اعتقادي الشخصي، ان هناك خطأ استراتيجياًً آخر لهذا النكوص هو إيمان الحزب بالقوة اللامتناهية للأفكار...
ولنا مثال دولي آخر في الثقافة السياسية، ذلكم هو الانتباه الروسي في ذهن "بوتين" والقادة الروس بعد غياب الاتحاد السوفيتي. فقد عادت الثقافة "الاتحادية السابقة" التي ترسخت، لتستعيد حضورها العملي بشكل محاولة لترتيب اتحاد هو الاتحاد الروسي اقل حجما ولكن بصوت دولي فاعل ومهدِّد. ان شعوراً بان خسارة كانت وخسارة أُخرى على الأبواب اعاد الفكر السياسي السوفيتي في بعض أشكاله الى الحضور. فهو يشهد غياب حلف وارشو وتقدم الناتو. الثقافة الروسية استعانت بالثقافة السوفيتية، التي لم تمسحها التحولات الحديثة.
وقبل ايام وقف قائد القوات الأمريكية في أفغانستان ليعترض فجأة على مخطط الإجراءات العسكرية للبيت الأبيض. احتكاكه بالثقافة الأفغانية المتوارثة وقوة فعلها وبالبيئة المساندة لها كشف للرجل عن خطأ مواجهة تلك الثقافة بالثقافة العسكرية الأمريكية، وان أموراً أُخرى ثقافية الأسس يجب ان تؤخذ بالحسبان. ان ثقافة المجتمع المراد تغييره تتطلب معالجات عقلانية أُخرى بطيئة، لكن متدرجة.لابد من توفر متطلبات الثقافة الجديدة لتستقر!
وهذه ليست المرة الأولى التي ينتبه لها الفكر العسكري الأمريكي. فقد كان من قبل لجون كيندي دور الانعطافة المهمة في السياسة الأمريكية، فهو في مواجهة "التهديد" السوفيتي، كان يرى على أمريكا الا تكون شديدة مع موسكو فقط، ولكن ان تستثمر قوى غير عسكرية مضادة، فصار التأكيد على ثقافة تقرير المصير
والديمقراطية وحقوق الإنسان وهي كما هو معلوم ثلاث نقاط اعتمدتها الولايات المتحدة وحليفاتها في الحرب الباردة: قال كيندي في خطاب توليه الرئاسة : "بقتالنا من اجل الناس الفقراء في أكواخ وقرى العالم، انما تساعد أمريكا نفسها بذلك. فإذا لم يستطع المجتمع الحر ان يحمي الكثيرين ممن هم فقراء، فهو لا يستطيع ان يحمي القلّة من الأغنياء..." لذلك وبعد عمله لإزاحة الصواريخ من كوبا، كان عمله هو تأسيس "الوكالة الأمريكية للإنماء الدولي". وفي هذا إدراك حصيف انه لا يستطيع ان يثبت قيماً حديثة (وهي هنا قيم امريكية في المجتمعات الأُخرى المهمة لامريكيا)، اذا لم تنمُ المجتمعات صناعياً وزراعياً واقتصادياً عاماً فتصبح محتاجة لقيم حضارية جديدة او لقيم جديدة! 
ان أحدا قد لا يفكر في ان تفكير كنيدي هذا هو سبب من أسباب اغتياله، لان المؤسسات الأمريكية لا تريد تنمية حقيقية في المجتمعات التي تمتلك الخامات، تدني أوضاعها وفقرها وتخلفها وجهل شعوبها يُمِكّن من استغلالهم أكثر وبكلف أقل. وكما ترون هذا التفكير، اقتصاديا، تفكير مضاد لتفكير كنيدي!
بعد كنيدي أضاعت فكرة "عالمية الحرية" طريقها اذ بدأ انحدارهم إلى فيتنام والتوغل فيما يسمى المستنقع الفيتنامي ولم ينفع من بعد انتباه ريجن في سحب جنوده من لبنان 1984 وسحب بل كلنتون جيوشه من الصومال وهما حالتان لتنقذ أمريكا نفسها من مستنقعات كبيرة، طويلة الأمد ومكلفة وغير مجدية النتائج.
خلاصة كلامنا، لا السياسية، ولكن الثقافية، ان ثقافة جديدة لن تتقدم بالرغم أو بالقوة والإزاحة. فأية ثقافة جديدة هي حاجة اجتماعية جديدة. لابد من ان تسبقها مؤهلات وبنى تحتية وتطور اجتماعي يولد مثل هذه الحاجة، او الحاجات الجديدة، لها. قوى الاحتلال لا تزرع ثقافة وإذا زرعت فستقتلها البيئات غير المستصلحة.
هذا موضوع شائك ومتشعّب لايخلو من انزلاقات فكرية واراني قمت بمجازفة في طرحه. على اية حال، أنا حاولت وعملت على تبسيطه، إذ في رأيي لابد من بداية، وها أنا قد بدأت!

المدى

  كتب بتأريخ :  الإثنين 20-09-2010     عدد القراء :  2126       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced