ترجمة عبدالسلام صبحي طه
في بداية الثلاثينيات (من القرن العشرين) تم وضع حجر الأساس لفكرة راودت السيد ساطع الحصري، مدير دائرة حديثة التأسيس، باسم مديرية الآثار العامة. فقد كان آنذاك معروفاً في الأوساط العلمية العربية، وله دور مهم في منح الكوادر العراقية الفرصة للمساهمة بالأعمال التنقيبية بدلاً من إحالة مسؤوليتها بالكامل إلى البعثات الأجنبية، وهذا أمر يحسب له ولابد من التذكير به. وبالرغم من محدودية الكادر العراقي حينها فقد تمكن الحصري من إحالة مسؤولية التنقيبات في مواقع مهمة كسامراء وواسط والكوفة لإطلاع العالم على عظمة الحضارة العربية وثقافتها, وطُرحت مطبوعات كثيرة باللغة العربية واللغات الأجنبية تشير إلى نجاحات الفرق التنقيبية العراقية, وتؤسس لفريق وطني متخصص في التنقيبات الأثرية واللغات القديمة .وقد بُعث إلى المعهد الشرقي في شيكاغو، نهاية الثلاثينيات، إثنان من أفضل وأكفأ الخريجين العراقيين, هما طه باقر وفؤاد سفر, للحصول على شهادة الماجستير في الآثار واللغات النهرينية القديمة, وحال عودتهما إلى العراق ترأسا حملات تنقيبية في واسط, عقرقوف, الدير، حرمل, العقير, حسونة, أريدو, والحضر. وجرى نتائج هذه الأعمال داخل العراق وخارجه.
وبهذا الإنجاز أرسيت الأسس لما يمكن أن ندعوه بالمدرسة العراقية للأبحاث الآثارية، فقد تمكن باقر وسفر، بمعونة الأستاذ ناجي الأصيل من تأسيس أول قسم آثاري في البلد مرتبط بجامعة بغداد، وتعاونا على إدارته، فتخرجت فيه أول دفعة مكونة من 12 طالباً.
في أيلول عام 1951، قدمتُ إلى بغداد من مدينتي الموصل، أول مرة، بعد تخرجي من الإعدادية لغرض استكمال دراستي الجامعية في إحدى كليات بغداد، وكانت خططي تتجه إلى دراسة ما يناسب طبيعتي, أقصد العمل الحقلي الخارجي والمغامرة .
حين دخلت كلية الآداب شعرت بالضياع لعدم معرفتي أحداً هناك, لكن أحد الطلاب، اسمه طارق مظلوم، اقترب مني, وسألني إن كنت أرغب في التقديم إلى قسم جديد للآثار تم افتتاحه مؤخراً. أثارت الفكرة اهتمامي، بعدها قادني مظلوم الى اللجنة المسؤولة عن اختيار الطلاب للقسم. كان رئيس اللجنة طه باقر, فأنبهر بعلاماتي العالية في الإعدادية, وسألني عن سبب اختياري لهذا الحقل, أجبته بسبب حبي للطبيعة, والعمل الحقلي والمغامرة, فابتسم وقال: لقد اخترت الاختصاص الصحيح إذن.
بعد أربع سنوات من الدراسة النظرية والحقلية، كان تخرجنا في صيف عام 1955، فعمل ثمانية منا في مديرية الآثار القديمة العامة, وانضم أغلبنا إلى فرق العمل في الحقل، بإشراف الأستاذ فؤاد سفر. وهذه المجموعة الأولى (المكونة من د . طارق مظلوم، د. عبد القادر حسن التكريتي، والكاتب) هي التي استثمرت الوقت والجهد طوال ثلاثة عقود, وقادت عدة بعثات تنقيبية من أنحاء البلد، وأضافت الكثير إلى إرث العراق، وقد نُشرت نتائج أعمالها في عدة مجلات علمية.
المدى
نُشر المقال فيIraq Review, June 1, 1986